د.عبد الكريم بكار

ريب في أن الأمة تشهد صحوة مباركة على الذات، وتبذل جهوداً ليست بالقليلة من أجل تلمّس نقاط القوة والضعف لديها، وما هذا الجدل الذي نسمعه ونراه حول كل شيء وفي كل مكان إلاّ تعبير عن التشوّق لمعرفة حقيقة الأوضاع التي نعيشها، ومعرفة حقيقة ما يجري من حولنا. هذا التشوّق يصطدم بحاجز كتامة الواقع وغموضه، وهذا الغموض منه ما هو فطريّ تلقائيّ، ومنه ما هو مصطنع ومتعمّد. والحقيقة أنّ فهم الواقع يشكل اختبارًا من أصعب الاختبارات لما لدينا من فهم وعلم وتعريفات ومصطلحات ومفاهيم، ومعرفة بطبائع الأشياء وبسنن الله -تعالى- في الخلْق، ومعظم الناس، وكثير من الصفوة والخاصة لا يملكون من كل ما ذكرناه ما يكفي لمعرفة حسنة بالواقع العام الذي يتقلّبون فيه. حاولْ أن تسأل عشرة من التربويين المخضرمين عن مسألة (العنف ضد الأطفال) في بلدهم -على سبيل المثال-: هل العنف يزيد على مستوى الكم، وينتشر أكثر وأكثر لدى الأسر وفي الحياة العامة؟ أو أنه ينكمش ويتراجع؟ وهل العنف ضد الأطفال يتراجع على مستوى (الكم)، فتتخلص أسر وجهات كثيرة منه، على حين أنه يتصاعد على مستوى (الكيف) لدى بعض الأسر وبعض الجهات؟ اطرحْ مثل هذا السؤال في كل مجال وعلى أعداد كبيرة من الناس، وستأتيك أجوبة كثيرة ومتنوعة، لا تزيدك إلاّ حيرة، ولا تجد نفسك معها مؤهلاً لترجيح أي منها! وليس هذا خاصاً بالمسلمين ولا بالعرب ولا بالدول النامية؛ فالصحيح أن الارتباك في فهم الواقع مما عمّت به البلوى، لكن درجة ذلك الارتباك تختلف من شخص إلى شخص ومن مجتمع إلى مجتمع؛ بحسب توفر المعطيات والمعدات المطلوبة لدرجة حسنة من الفهم. قد يقول قائل: لماذا كل هذا الأسى على عدم تمكّننا من فهم الواقع ما دام كل واحد منا يحاول أن ينجح في مجاله الخاص، وهو يعرف على نحو حسن وضعية ما هو فيه ومشكلاته؟ لا شك أن هذا التساؤل وجيه جداً بالنسبة للأفراد وبالنسبة للأنشطة المحدودة، إذاً ما حاجة معلم يريد أن ينجح في مهنته إلى معرفة الواقع السياسي والاقتصادي لبلده؟ وما حاجة مزارع يعمل في أرضه إلى معرفة الوضع التربوي والتعليمي في إقليمه؟ لكن هذا لا ينطبق أبداً على الأنشطة الإصلاحية والدعوية، ولا ينطبق على أي عمل (إستراتيجي) شامل وبعيد المدى. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا يعاني كثير من الناس من فهم الواقع؟ وما الذي علينا أن نفعله في سبيل تحسين إدراكنا له؟ وأقول في الإجابة عن السؤال الأول الآتي: 1- إننا حين نحب أن ندرك شيئاً معنوياً فإن أدوات إدراكنا له تختلف عن الأدوات التي نحتاجها في إدراك الأشياء الحسية، وعلى سبيل المثال فإن معرفة وزن سيارة أو حجم غرفة تحتاج إلى ميزان ملائم وإلى مقياس للأطوال كالمتر مثلاً، أي إن أداة معرفة المحسوسات حسية ومحايدة حيث لا تتصل بالذاتية أو بالتقدير الشخصي، ولهذا فإن إدراكنا لما هو حسي يكون في منتهى الدقة والموضوعية، وليس كذلك فيما لو أردت أن تعرف مدى إخلاص فلان في عمله، ومدى صدق فلان في أقواله، ومدى حماسة فلان في تعليمه.. إنك هنا تستخدم أدوات قياس غير حسية؛ لأنك تقيس شيئاً غير حسيّ، وغير ملموس، ولو طلبنا من ثلاثة من المشرفين التربويين أن يعطوا درجة من مائة لأحد معلمي المرحلة الابتدائية، فإن المتوقع هو تفاوت درجاتهم، وذلك التفاوت قد يكون كبيراً إلى حد الصدمة! 2- لو عدنا إلى موضوع العنف ضد الأطفال، و حاولنا أن نصدر حكماً حول مدى انتشاره في مدينة يسكنها خمسة ملايين من البشر، فسنجد أن أول ما يحتاج إلى تحديد هو تعريف العنف ضد الطفل؛ إذ إن من حق المربي أن يوبّخ ويؤنّب، وقد يجد نفسه مدفوعاً إلى أن يلكم ابنه برؤوس أصابعه أو قبضة يده دون شعور منه، فإذا حدث ذلك من أب مرة كل ثلاث سنوات تجاه أحد أبنائه، فهل هذا من العنف؟ في بعض البيئات التي تربي أبناءها بدرجة عالية جداً من التدليل يمكن أن يُنظر إلى ذلك على أنه نوع من العنف الذي يصعب قبوله، على حين أن هذا الفعل لا يتوقف عنده أحد، ولا يثير أي تساؤل في بيئة تُضرب فيها النساء كما يُضرب الأطفال على نحو يومي وبشكل خشن ومؤذٍ. وإن من العبارات المألوفة في أنحاء كثيرة من الوطن العربي قبل ثلاثين سنة -وما زالت مستمرة في بعض البلدان- أن يقول الأب لشيخ الكُتّاب حين يوصل إليه ولده أول مرة: لك اللحم ولنا العظم! أي لك أن تضربه ضرباً مبرحاً ولو أدى ذلك إلى سقوط اللحم! أما العظم فإنه من نصيب الأهل، ربما ليمارسوا فيه عنفهم! إذن الناس ينظرون إلى الأمور المعنوية من أفق موروثاتهم الثقافية، ومن أفق الأوضاع التي يعايشونها، وهي متفاوتة ومتباينة إلى حد بعيد. إن بوابة الفهم للأشياء غير المحسوسة يتجسّد في فهم التسمية والمصطلح الدال على ما نريد فهمه وإدراكه، ولهذا فإن تحرير المصطلحات يشكل عملاً في غاية الأهمية، وقد سُرِرت حين التقيت بأحد علماء المغرب العربي، وأخبرني أنه يقوم على مركز يهتم على نحو مركَّز بتحرير المصطلحات. إنه فعلاً عمل في الصميم! للحديث صلة.