د.عبد الكريم بكار

ذكرت في المقال السابق أن إدراك غير المحسوسات يشكل دائماً اختباراً لما لدينا من علم وفهم للمصطلحات والتعريفات، وذكرت أن بوابة فهم ما هو غير ملموس تتجسد في تعريفه وفهم دلالة الألفاظ الموضوعة له، وأود هنا أن أشير إلى أن اجتهادنا في فهم التعريفات لا يعني حسم النزاع، وإنما يعني تضييق شقة الخلاف، وذلك لأننا حين نعرِّف شيئاً فإننا نترجم نظرتنا إليه، ونستخدم ما لدينا من أدلة وأقوال وانطباعات، وهي مختلفة اختلافاً بيّناً. انظر مثلاً إلى تحديد سن الرشد بالنسبة إلى البالغين، فالفقهاء لم يصيروا إلى سن محددة، وإن المرء لا يكون راشداً قبل البلوغ، فإذا بلغ فقد يكون راشداً، وقد لا يكون، والأمر متروك لاستعداد الشخص وتربيته وبيئته، وليس في النصوص الشرعية ما يدل على تحديده بسنّ معينة، ويمكن مع تعقد ظروف الحياة وتعقد المعاملات وشيوع الخداع، يمكن مع كل هذا رفع سن الرشد إلى العشرين وما بعدها، وهذا ما كشفت عنه القوانين الوضعية؛ إذ إن منها ما حدد سن الرشد بثماني عشرة سنة، ومنها ما حدده بإحدى وعشرين سنة. وهذا الاختلاف والتباين نابع في الأصل من تنوّع فهوم وخبرات الفقهاء والقانونيين لمعنى الرشد ومدلولاته. كلما اتسعت مساحة ظاهرة من الظواهر ارتبكنا أكثر في استيعابها والعكس صحيح، ومن هنا فإن معرفة ما لدى رجل من علم وحلم وورع أسهل بكثير من معرفة ما لدى شعب من صفات وأخلاق وعادات، تميّزه عن الشعوب الأخرى، وهذه الحقيقة لا نتجادل حولها؛ لأن فهم وضع شعب يحتاج إلى رصد عد كبير من سلوكيات أبنائه، والنظر إليها من زوايا مختلفة ووفق معايير واعتبارات متعددة، ومن ثم فإن إمكانية الخطأ في التوصيف دائماً واردة، وما نسمعه من وصف للشعوب بالذكاء أو البخل أو الكسل أو الكرم... لا يخلو من مجازفة وتجاوز ومبالغة. العجيب أننا في أحيان كثيرة نتجرأ على إصدار أحكام قاطعة وجازمة ليس على شعب من الشعوب، ولكن على أمة الإسلام بأكملها، وهي مكونة من عشرات الشعوب، وأكثر من ربعها يعيش في دول غير إسلامية، وله ظروف خاصة! إذن التعريفات ستظل قابلة للانتقاء وموضعاً للتحيز، وإن أي شيء نختلف في تعريفه نفقد الإجماع على الحكم عليه، وهذه سنة من سنن الله -تعالى- في شؤون الفكر والقضاء. وإذا حاولنا أن نعثر على أكثر الأشياء إرباكاً للعقل، فربما وجدنا أن ما يفصل بين الثنائيات والمتضادات من مسافات ذات أوساط متدرجة هو الذي يستعصي على الفهم الدقيق، وهو الذي لا يكتمل التعبير عنه في أي حال من الأحوال، ولدينا في الحقيقة عشرات الأمثلة على هذا. خذ -مثلاً- أقصى درجة من درجات السواد القاتم، ثم تدرّج حتى تبلغ أقصى درجة من درجات البياض الناصع، وضع الطرفين والمساحة الفاصلة بينهما، على خط متصل، وستجد أن لديك عشرات الألوف من الألوان المتدرجة المتداخلة، وحين تأتي للتعبير عما ترى، فإنك لن تجد الألفاظ الدالّة عليه، وذلك لأن اللغة -أي لغة- نظام قاصر في التوضيح ونقل المعاني والرموز، والناس لم يطوروا النظم اللغوية بما يكفي؛ لأن حجم ما يدركونه من تفاصيل وتنويعات دائماً محدود، هذا ونحن نتحدث هنا عن شيء مرئي، فما بالك إذا حاولنا التعبير عن التنويعات التي تفصل بين أشجع الشجعان وأجبن الجبناء، والتنويعات التي تفصل بين أتقى الناس وأورعهم وبين أكفر الناس وأفجرهم...؟! لا شك أننا سنجد أنفسنا مرتبكين ارتباكاً شديداً، وجزء كبير من ذلك الارتباك سيتعلق بتحديد الشخص الذي نرى أنه أشجع الشجعان والشخص الذي نرى أنه أجبن الجبناء! وقد واجه علماؤنا الأقدمون -وما زلنا نواجه- الكثير من المصاعب حيال هذه القضية على نحو ما نجده من الحديث عن الكبائر والصغائر، وعن الإيمان والكفر والظلم والفسق، والفرض والواجب والمحرم والمكروه.. وقد حاولوا حلّ الموضوع حلاً جزئياً بناء على حكمتهم ووعيهم، فقالوا: كفر دون كفر وفسق دون فسق، وقالوا هذا سنة مستحبة، وهذا سنة مؤكدة، وبعض الفقهاء يقول في بعض المناسك والشعائر: هذا فرض وهذا واجب، وهذا مكروه، وهذا خلاف الأولى، وهذا مما لا بأس به. إن دور اللغة في الارتقاء بالتفكير، وفي تحسين التواصل الإنساني، وفي فهم المشكلات دور بالغ الأهمية، ومن المؤسف أن نرى اليوم تراجعاً حاداً في استخدام العربية في مجال المال والأعمال، كما نرى انخفاض مستوى إتقانها لدى كثير من طلاب العلم، حتى صاروا يخطئون فيما هو أقرب إلى البديهيات والمسلَّمات، وصارت الحصيلة اللغوية لدى كثيرين أشبه بالحصيلة اللغوية لدى العامة، وهذا ينذر بتسطيح الفهم؛ لأن الضحالة في المحصول اللغوي لدى المرء تحول بينه وبين فهم الصور الدقيقة والمفاهيم المعقّدة، وإذا فهم شيئاً من ذلك وجد نفسه عاجزاً عن التعبير عنه. لقد آن الأوان للتوقف عند أساليب تدريسنا للغة، وفحص النتائج التي نحصل عليها من وراء الجهود المضنية التي يبذلها الكثيرون من الأخيار وأهل الغيرة على العربية. وللحديث صلة.