د.عبد الكريم بكار

ذكرت في المقالين السابقين شيئاً عن مفاصل أزمة الإدراك لدينا، وتلك ليست خاصة بفئة أو طبقة دون أخرى، لكنها -طبعاً- عند العامة وذوي الثقافة الضحلة تكون وطأتها أشد، وعلينا أن نعترف في البداية أننا مهما تعلمنا، ومهما ارتقت ملكاتنا النقدية فإننا لن نستطيع أن نتخلص من هذه المشكلة العويصة لأسباب موضوعية عديدة، لكن هناك آمال في التحسن النسبي. ومع أن الوسائل التي يمكن أن تساعدنا في ذلك عديدة إلاّ أنني هنا سوف أركز على وسيلة واحدة، هي العمل على تحويل المدركات من (كيف) إلى (كم)؛ أي من شيء نتوسل إلى إدراكه من خلال التعريفات، إلى شيء ندركه من خلال (الأرقام)، وهذه المحاولة لا تستقيم في الأمور المُغرقة (في المعنوية) مثل الحب والكرة والحماسة والسأم والنشاط والفتور، لكن مع هذا يظل أمامنا فضاء رحب لما نريد بلوغه مما ذكرناه. وهذه بعض الملاحظات في هذا الشأن: 1. يبدو لي أن التقدم الحضاري ظل على مدار التاريخ مرتبطاً بما يمكن توفيره من أرقام وإحصاءات؛ فالتخلف صديق الجهل وربيب الغموض، أما التقدم فإنه مع الوضوح والتحديد والدقة. وليس هناك شيء يساعدنا على الحصول على كل هذا أفضل من (الأرقام). وإذا نظرت اليوم في أحوال الأمم تجد مصداقية هذا، فالولايات المتحدة واليابان وكندا وأستراليا تتربع على قمة الدول المتقدمة، وهي في الوقت نفسه أكثر أمم الأرض اهتماماً بالإحصاء وتوفير الأرقام. إن الدول المتخلفة والدول الفقيرة لا تملك إلاّ القليل جداً من الأرقام، وهذا يعود إلى ضعف إمكاناتها المادية وإلى تخلّف نظمها وبنياتها الحضارية. كما أن كثيراً من المستبدين والمتنفذين لا يرتاحون للإحصاءات ولا للأرقام؛ لأنها تكشف حجم المأساة التي كثيراً ما يكونون سبباً فيها، كما أن الوضوح الذي توفره الأرقام يجعل عملهم في الكسب غير المشروع أصعب، ونحن أحياناً لا نحب الاطلاع على الأرقام؛ لأننا نعاني مما يمكن أن أسميه رهاب (الرقم)، ونخشى من (صدمة الرقم) لهذا ننصرف عن البحث عنه، وأحياناً عن سماعه. 2. إن الواقع ذو طبيعة (زئبقية)، وهو شديد التمنع على الإدراك، وأنا أشبهه بـ(الأرنب) والأرنب -كما يقولون- لا تستطيع الإمساك به إلاّ من أذنيْه، وإن أذنيْ الواقع هي الأرقام التي تتحدث عن أوضاعه ووقائعه وأحداثه. هناك من يقول لك: تمكّنا من بناء مائة مسجد أو ألف مدرسة، أو حفر ألف بئر... إن هذه الأرقام تقربنا خطوة مهمة من فهم حقيقة ما تم إنجازه؛ إذ لا نشك أن إدراكنا لذلك أفضل من إدراكنا فيما لو قيل: بنينا الكثير من المساجد والمدارس، وحفرنا الكثير من الآبار. ونستطيع عن طريق (الأرقام) أيضاً أن نصل إلى فهم أدقّ، وذلك حين نسأل عن تكاليف ذلك؛ إذ إن تكلفة المسجد الواحد -وكذلك المدرسة والبئر- قد تصل إلى حجم تكلفة (مائة) مما يُسمّى مسجداً أو بئراً أو مدرسة. 3. في اعتقادي أن علينا أن نفكر دائماً في إيجاد مصادر لتوفير الأرقام، وذلك من خلال إنشاء قسم للإحصاء والمعلومات في كل دائرة حكومية وكل مؤسسة وشركة وجامعة ومشفى وجماعة وحزب وجمعية وبرنامج ومشروع.. وهذا ليس من باب الترف، بل هو ضرورة ملحة كي نفهم أوضاعنا وإنجازاتنا، وكي نشرحها للناس على نحو أفضل، وقد سرني ما أطلعني عليه بعض الأخوات الناشطات في العمل الخيري؛ إذ قمن بإنشاء مؤسسة خيرية مهمتها القيام بإجراء مسوحات وإحصاءات لحاجات الفقراء والضعفاء وذوي العاهات، وتوفير أكبر قدر ممكن من الأرقام حول ذلك من أجل تقديمه إلى الجمعيات الخيرية. ونحن نحتاج في الحقيقة إلى وكالات ومعاهد ومراكز لمسح كل جوانب الحياة، و ترجمة كل الحيثيات إلى دلالات رقمية على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والحضاري عامة، كما أننا في حاجة إلى مراكز لقياس الرأي العام والوقوف على اتجاهات الناس حول القضايا والمسائل المختلفة. 4. لا يكفي أن يكون لدينا الكثير من الأرقام؛ لأن حاجتنا الأساسية ليست إلى أي أرقام وإنما إلى أرقام موثوقة، وفي كثير من الأحيان يكون الحصول عليها أمراً عسيراً؛ إما لأن الجهات التي تصدرها هي أساساً غير موثوقة، وإما لأنه ليس هناك سبيل للتأكد من صدق تلك الأرقام، ومن هنا فإن من المهم أن تُعْتمد سياسة تمحيص الرقم بالرقم، وهذا لا يتم إلاّ إذا كثرت الجهات التي تهتم بإصدار الإحصائيات المختلفة، التي تتصف بالمصداقية والاستقلالية. 5. مضت سنة الله -تعالى- في الخلق أن ما يشتد عليه الطلب يكون أكثر من غيره عرضة للمتاجرة والتزوير والتشويه، وهذا ما يحدث الآن للبنى الرقمية، ويُغري بتزوير الأرقام المنافعُ العظيمة التي يحصل عليها الناس من وراء تقليل الرقم أو تضخيمه، كما يُغري بذلك صعوبة اكتشاف الكذب في الأرقام، ومن هنا فإن علينا أن نحاكم الأرقام في بعض الأحيان إلى ما نعرفه من طبائع الأشياء وسنن الله -تعالى- في الخلق، كما أن علينا أن نتعامل مع الرقم في بعض الأحيان على أنه مؤشر ليس أكثر والله المستعان.