القراءة فن سامق، ومركب ذلول لمريد الـمـعـرفــة، إلا أن جمهرة من المثقفين ـ بله غيرهم ـ افتأتوا عن ركائز تحكُمُه، وثوابت تضبطه، حتى أصبح مُنْتَجَعاً قليل الكلأ، والِجُهُ لصيق الهُزَال العلمي!
لذا: فهذا رسم لشيء من تلك الركائز، بُغْيَة الإصلاح.
الركيزة الأولى: أن الإيغال في بطون الكتب، والإمـعــــان في فهم مقاصد أصحابها، معقودة زمائمه بالبِنْية العلمية للناظر قوةً وضعفاً، وهي مُحَصّلة التّلقي عن الأشياخ، أو ما هو آيب إليه، ومن ثم: نسطيع (تفسير) إفادة شخص من كتاب أكثر من آخر، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي (رحمه الله) في (موافقاته):
(وإذا ثبت أنه لابد من أخذ العلم عن أهله فلذلك طريقان:
* أحدهما: المشافهة، وهي أنفع الطريقين وأسلمهما،...
* الطريق الثاني: مطالعة كتب المصنفين، ومدوني الدواوين . وهـــــــو أيضاً نافع في بابه بشرطين:
الشرط الأول: أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب ومعرفة اصطلاحات أهله: ما يتم له به النظر في الكتب، وذلك يحصل بالطريق الأول من مشافهة العلماء، أو مما هو راجع إليه؛ وهو معنى قول من قال: (كان العلم في صدور الرجال، ثم انـتـقـل إلى الكتب، ومفاتحه بأيدي الرجال).
والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئاً، دون فتح العلماء، وهو مشاهد معتاد.
الشرط الثاني: أن يتحرّى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد؛ فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين)(1).
لذا: نجد العلماء والعارفين يحثون المتعلم على تلقف العلوم من أفواه ذوي الـذّكـــر، حتى تتكون عنده النواة العلمية المطلوبة، والحصانة المانعة من ولوج حُثالة الأفكار، وزُبـالـــــة الأسـفــــــار، إلـى مـسـارب النفس، بل إذا وردت عليه ردّها حرسُ العلم وجيشه مغلولة مغلوبة(2).
الركيزة الثانية: مما لا ريب فيه أن الأسلاف الأول أرسخ في الـعـلم قدماً، وأَسَدّ فهماً ممن أتى بعدهم، هذا في العلوم المشتركة بين السابق واللاحق، وأصل ذلك: التجربة والخبر.
أما التجربة، فهو أمر مشاهد في أي علم كان، فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ ـ في علمٍ ما ـ ما بلغه المتقدم، وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري، فأعمـــال المتقدمين في إصلاح دنياهم ودينهم على خلاف أعمال المتأخرين، وعلومهم في التحقيق أقعد، فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم، وهـكـذا إلـى الآن، ومـن طالع سيرهم وأقوالهم رأى العجب في هذا المعنى.
وأما الخبر، ففي الحديث: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع ما بعده كذلك(3).
فابقِ الأولوية لكتب الأوائل الأقـــدمين؛ قراءةً وفهماً وحفظاً، ولا يُغْتَر بما يُرى للمتأخرين من كثرة كلام في كراريسهم ومكتوبـهـم؛ حيث فتن كثير من المتأخرين بهذا، فظنوا أن من كثر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الـديـــــن، فهو أعلم ممن ليس كذلك، وهذا جهل محض.
وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم؛ كأبي بكر وعـمـــر وعلي ومعاذ وابن مسعود وزيد بن ثابت، كيف كانوا؟، كلامهم أقل من كلام ابن عباس، وهــــم أعـلـــم منه، وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة، والصحابة أعلم منهم، وكذلك تابعو الـتـابعين: كلامهم أكثر من كلام التابعين، والتابعون أعلم منهم، فليس العلم بكثرة الرواية، ولا بكثرة المقال، ولكنه نور يقذف في القلب، يفهم به العبد الحق، ويمـيز به بينه وبين الباطل، ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد(4).
ومع هذا التفضيل الإجمالي للأولين فإن الثّقِف مَن يُفِيد مـــن رُقُم الآخِـــــريـن، في توضيح مسألة، وإلحاق فرع بأصل، ونحوهما.
الـركـيــزة الـثـالـثــة: إن فَلْي الكتب، وتأرّض مكانها؛ جادةٌ مطروقةٌ، لكن بقصد تحقيق البصيرة عند العمل، ومعرفة السبيل الأقوم عند الواقعة، لأن العامل (لا يكون عمله صالحاً إن لم يكن بعلم وفقه)(5).
فالنظر الجالب للـعـمـــل الـمـفـيد هو العلم النافع؛ لأن العلم الحق (هو العلم الباعث على العمل)(6)، (والمسكين كل الـمسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاته لذات الدنيا، وخيرات الآخرة، فقَدِمَ مفلساً مع قوة الحجة عليه!)(7).
هذا، والله الموفق والمعين.
الهوامش:
(1) الموافقات: جـ1، ص96-97.
(2) مفتاح دار السعادة لابن القيم: جـ1، ص140.
(3) الموافقات: جـ1، ص97.
(4) فضل علم السلف على الخلف لابن رجب: ص92-94، تحقيق: مروان العطية.
(5) رسالة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية: ص48-49.
(6) الموافقات: جـ1، ص69.
(7) صيد الخاطر لأبي الفرج ابن الجوزي: ص144.