الحج
موسم مهيب، تتوافد إليه جموع المسلمين من كل فج عميق، يسوقهم الشوق،
ويحدوهم الحنين؛ استجابةً لدعوة أبينا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام،
وليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات.
إن الحج مرتبط بالتوحيد، فحين تقرأ آيات الحج تجدها متصلة بالتوحيد، يقول الله I: {حُنَفَاء
لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا
خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ
فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].
وإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- هو إمام الموحدين؛ ولهذا سُمِّيت
بالحنيفية، فالحنيفية هي ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه دعا إليها،
وأُوذي من أجلها، وجاهد في سبيلها، وهكذا كل الأنبياء -عليهم الصلاة
والسلام- بُعثوا بالتوحيد، يقول جل وعلا: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
ولا يُمكن أن تجتمع قوى الإنسان وعقله وضميره وروحه وحياته إلا بالإيمان
بوحدانية الله، وتعلق القلب بالله، لكنك اليوم تجد بعض المسلمين الذين
يؤمنون بالله، وينطقون بالتوحيد، قد تشعبت قلوبهم؛ ففيها تعلق بغير الله،
ورجاء كشف الضر من غيره، وتقديم كثير من العبادات للأولياء أو للأنبياء، مع
أن الأنبياء أنفسهم -وهم أفضل الركب البشريّ- بُعثوا ليدعوا الناس إلى
عبادة الله I وليس إلى عبادة أنفسهم؛ ولهذا قال الله عنهم وعن الملائكة: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29].
فمسألة الوحدانية قضية جوهرية في لب الإيمان، ينبغي التعويل عليها
كثيرًا، والتنبه إلى أن من طبيعة عوام الناس وجهلائهم أنه تسرع إليهم
المعتقدات الباطلة؛ ولذا فهم بأمس الحاجة إلى التذكير بأن المقصود هو عبادة
الله، وأن شعائر الحج مستفتحة بالتوحيد، ومؤسسة عليه (لبيك لا شريك لك)،
وأن شعائره ومشاعره إنما هي لتحقيق العبودية الخالصة لله وحده.
ومما أُثِرَ عن عمر
وهو الخليفة الراشد الملهم قوله حين قَبَّلَ الحجر: "إِنِّي أَعْلَمُ
أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ
النَّبِيَّ
يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ".
وقال عمرو بن زيد بن نفيل، وهو أحد الحنيفيين في الجاهلية، وكان يقف قبالة الكعبة، ويستعيذ بالله تعالى، ويسأله ويتحنث ويتعبد:
عُذتُ بِمَن عاذَ بِهِ إِبراهِمُ *** مُستَقبِـلَ الكَعبَةِ وَهوَ قائِمُ
يَقولُ أَنفي لَكَ عانٍ راغِمُ *** مَهما تُجَشِّمني فَإِنّي جاشِمُ
أي مهما تُحملني فأنا أتحمل.
ويقول أيضًا:
هجرت اللات والعزى جميعًا *** كَذَلِكَ يَفعَلُ الجَلدُ الصَبورُ
فَلا العُزّى أَدينُ وَلا اِبنَتَيهـا *** وَلا صَنَمَي بَني عمرو أزور
وَلَكِن أَعبُدُ الرحمـنَ رَبـي *** لِيَغفِرَ ذَنبِيَ الـربُّ الغَفورُ
فهذه المعاني ينبغي أن تُقدم للناس بلطف، وقد رأيت بعض الإخوة الدعاة
كثيرًا ما يتحدثون للمسلمين الحجاج عن الشرك ويبدون فيه ويعيدون، دون أن
يحددوا موضوع التوحيد، فالأصل هو الدعوة للتوحيد دون أن تُفهِم الحاج: أنه
مشرك، وعليه أن ينتقل للتوحيد.
إن الناس يحتاجون إلى أن تُغرس هذه المعاني في قلوبهم بلطف وهدوء، فلا
يُقدم لهم شيء على أنه جديد عليهم، وأنهم يجهلونه؛ فالقضية تتطلب أناة
وحكمة، والحكمة هي كيف تصل إلى قلب المخاطَب بهدوء، بعيدًا عن المحاكمة
والعسف، أو الإطاحة بإنسانيته واعتزازه.
إن كثيرًا من الجهالات تحتاج إلى تلطف في الوصول إلى موضعها في القلب، ومعالجتها بمبضع الرحمة والشفقة، وبيد الطبيب الماهر.
كما أن الحج وحدة في الزمان والمكان، وأيضًا في الآليات التنفيذية في
العبادة في كل مشعر، فاللباس موحد، والنداء والشعار موحد، والجموع كلها
تردد ملبيةً: (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ
لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ
لَكَ).
فأي معنى من الوحدة أعظم من هذا المعنى!
فالله I يربينا عليه، ثم مع ذلك تجد هؤلاء
الناس الذين تزدحم بهم الأودية وتضيق بهم الشعاب بينهم من المشاكل والخلاف
ما الله به عليم؛ فالشعوب متباعدة، والنفوس متنافرة، والجماعات متخالفة.
لقد أرهقنا وأجهدنا وأضرَّ بنا هذا التمزق الهائل الذي أصبح هو المقصلة
التي تذهب عليها كل جهود المخلصين؛ بسبب إفراطنا في الأنانية والذاتية،
وعدم وجود الرحمة عندنا.
إننا قد نختلف في أشياء كثيرة، ولكن علينا أن نتفق على مبدأ الرحمة والإخاء، والصبر وطول النفس، فالله I
يربينا بالحج، ويُربينا بالصلاة، ومن خلال هذه التربية نعرف أنه ليس معنى
الوحدة أن نكون صورةً طبق الأصل عن بعض؛ لأن الحجاج منهم القارن ومنهم
المتمتع ومنهم المفرد، واجتهاداتهم تختل