عندما تنبَّه عددٌ من المتابعين في عصر النهضة الصناعية في أوروبا لِمَا يتعرَّض له العمال، رفعوا لواء الدفاع عنهم، وطالبوا بتحسين ظروف العمل، وتأمين متطلبات عيش كريم لهؤلاء العمال، وتمخَّض عن تلك التحرُّكات والمطالب ظهورُ عدد من الجمعيات والهيئات والنقابات العمالية، وقاد ذلك لجعل يوم الأول من مايو ذكرى تُستعاد كل عام، وما لبثت أن اعتُبرت يومًا عالميًّا للعمال، يُحتفل به في كل أنحاء العالم بهدف لفت الأنظار إلى دور العمال ومعاناتهم، والعمل على تأمين متطلبات عيش كريم لهم.
وفي الحقيقة؛ فإن الإسلام قد سبق إلى ذلك من مئات السنين، ووضع أسسًا وضوابطَ للعمل والعمال، وبيَّن الحقوق والواجبات- وقد تحدثنا عنها سابقًا- بل رفع قيمة العمل، وجعله قيمةً تصل إلى مرتبة العبادة، وهو ما لم يحدث في شريعة سابقة.
نظرة الإسلام إلى العمل
لقد رفع الله درجة العمل إلى مرتبة العبادة، وقرنه بالإيمان في كثير من الآيات، قال الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا(110)﴾ (الكهف)، واعتنى الإسلام بالعمل، وجعله نعمةً تستحق الشكر.. قال تعالى: ﴿لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ(35)﴾ (يس)، فالآية تحثُّ الإنسان على الأكل من كسبه وكدِّه؛ سواءٌ كان بزراعة الأرض، وهو ما أومأت إليه الآية ﴿مِنْ ثَمَرِهِ﴾، أو بالتجارة المشروعة، أو بالصناعة على اختلاف أشكالها، كما في قوله: ﴿وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾.
كما اعتبر الإسلام العملَ نوعًا من الجهاد، ينال به درجة المجاهدين وشرف المرابطين، فعندما رأى الصحابة شابًّا قويًّا يُسرع إلى عمله، قالوا: لو كان هذا في سبيل الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا هذا؛ فإنه إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيل الشيطان".
والعمل الجادّ مكفِّر للذنوب ومطهِّر للآثام؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "من بات كالاًّ من عمله، بات مغفورًا له"، والعمل، مهما كان حجمه، إذا نوى صاحبه إطعامَ الجائع وكساءَ العاري وشفاءَ المريض وإغناءَ الفقير؛ كان له بذلك صدقةٌ جاريةٌ وأجرٌ غير ممنون، ما انتفع الناس والحيوان بثمرة عمله.. قال صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة".
إن الإسلام قد عَظَّم قيمة العمل، وأعلى قدر العاملين، وحرَّم التبطُّل، وحارب الخمول والكسل، وهناك أحاديث تنهى عن القعود، وتدفع إلى شحذ الهمم، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره، فيبيعها، فيكفّ بها وجهه؛ خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه".
فقد حثَّ الإسلام المسلم على أن يكون ديدنه في حياته كلها العمل والعطاء وتعمير الأرض وبناء الحياة؛ حتى يدركه الموت أو الساعة، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة؛ فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها".
العمل قيمة في ذاته
العمل، مهما كان قدره ومهما كان ربحه وعائده، فهو يمنع صاحبه من التبذُّل وسقوط ماء الوجه وضياع هيبته بالسؤال، وبذلك ينال العامل توقير المجتمع واحترامه، ويحيا عزيزًا كريمًا، ويموت جليلاً حميدًا، وفي حديث البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: "لأن يحتطب أحدكم حزمةً على ظهره؛ خيرٌ له من أن يسأل أحدًا، فيعطيه أو يمنعه".
فالعمل في الإسلام قيمة في حدِّ ذاته، فاليد العليا خيرٌ من اليد السفلى، واليد التي تعطي خيرٌ من اليد التي تأخذ، والعمل في الإسلام واجبٌ حيويٌّ، وليس للتفاخر والتكبُّر والجاه والمظهرية، فهو أساس الكسب والرزق الطيِّب لإعمار الأرض.
إن من أهم عوامل تقدم الأمة وتبوئها مكانتها المفقودة تقدمَها في الصناعات المختلفة وريادتَها في الأعمال المبتكرة؛ مما يُحقِّق لها المنعة من الأعداء المتربِّصين بها والطامعين في ثرواتها وكنوزها، وقد رأينا يوم أن أصبحنا عالةً على غيرنا فيما نأكل ونشرب ونلبس ونركب، ونحن لا حول لنا ولا قوة؛ حيث نُهبت أموالنا، وصودرت أراضينا ومقدساتنا؛ ولذا كان من مخطط الغرب لنا أن يبقيَنا شعوبًا جاهلةً متسوِّلةً لكل تقنية، تعيش وتقتات على صناعات غيرها.
لذا فإن العمل والإنتاج لسدِّ حاجة المجتمع وتقوية بنيته، وزيادة تماسكه وترابطه، وتحقيق تقدمه وريادته في شرعنا؛ فرضٌ تأثَم الأمة كلها إذا لم يتحقَّق لها ذلك، لهذا قال غير واحد من الفقهاء: "إن هذه الصناعات فرضٌ على الكفاية؛ فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها".
ضوابط العمل
إن العمل في الإسلام وسيلة تغني المسلم، وتكفل له حياةً كريمةً، فينبغي أن لا تشغلَه عن آخرته، وتعطِّلَه عن تقربه من ربه، وتعوقه عن خدمة دينه؛ بل ينبغي أن ترفعه إلى العطاء ورعاية واجباته الدعوية.. إن المؤمنين الصادقين ليسوا عالةً على غيرهم، تشغلهم عبادتهم عن العمل والكسب، وليسوا طلاب دنيا وعبيد مال، تحجزهم مصالحهم وتلهيهم تجارتهم عن أداء حقوق الله تعالى؛ لذا جاء في وصف المؤمنين الصادقين: ﴿رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ...﴾ (النور: من الآية 37)، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ...﴾ (المنافقون: من الآية 9).
إن الإسلام يحثُّنا على ضرورة التحلي بالقيم الإيمانية، ومنها الإيمان بأن العمل عبادة وطاعة لله عز وجل، وأنَّ الله عز وجل سوف يحاسبه يوم القيامة على عمله، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(105)﴾ (التوبة).
وكذلك الالتزام بالأخلاق الفاضلة، ومنها: الأمانة والصدق والإخلاص والإتقان والإبداع والابتكار والوفاء، ولقد أشار القرآن إلى ذلك على لسان ابنة سيدنا شعيب عليه السلام، عندما زكَّت سيدنا موسى عليه السلام للعمل عند أبيها: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ(26)﴾ (القصص).
إتقان العمل
حَضَّنا ديننا الحنيف على إتقان العمل وأن نُحسنه، وهو يدعونا إلى أن يصير الإحسان في الأعمال ثقافةً عامةً في المجتمع، وخلقًا واقعًا وسلوكًا حيًّا متجليًّا وبارزًا، على كل كلمة أو قول أو فعل أو مهنة أو شريحة أو مؤسسة عامة أو خاصة؛ هذه هي غاية الإسلام في تعاليمه وأحكامه.. إيجاد أمة محسنة، وهي إذ تتخلق بهذا إنما تتصف بما وَصف الله به نفسه قائلاً: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ (النمل: من الآية 88).
فبالإتقان تتقدَّم الأمة وتحقِّق ريادتها الواجبة في مختلف المجالات، صناعية وتجارية وزراعية، وبهذا يقدم المسلمون أنفسهم للعالم الذي لا يُقدِّر إلا الأقوياء في العلم والتقنية والإدارة والتخطيط والتنمية الشاملة والإعلام المبدع والاقتصاد القوى... إلخ، ومع الأسف فإن حظَّ المسلمين في هذه الجوانب متواضع ومحدود.
على العامل..
· أن يؤمن المسلم أن عمله محلُّ نظر الله تعالى، حيث يقول الله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ...﴾ (التوبة: من الآية 105).
· أن يعلم أن عمله أمانة عنده، فلا يضيِّعها ويفرِّطْ فيها، وقد قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(8)﴾ (المؤمنون).
· أن يتحلَّى بالجدِّ والمثابرة في العمل، فالإتقان يحتاج إلى مجاهدة، ومغالبة لعوامل الكسل والإهمال؛ لذا يقول ربنا: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(69)﴾ (العنكبوت).
· أن يختار الإنسان العمل أو المهنة التي يحبها ويقتنع بها، وتنسجم مع ميوله وإمكاناته، ويعدُّ هذا من الأمور الضرورية لنجاح الإنسان في عمله والإبداع فيه.
على الدولة وصاحب العمل..
· إكرام العامل وحسن معاملته؛ حتى يقوِّيَ لديه الشعور بالانتماء والولاء.
· إعطاء العامل الأجر الذي يتناسب مع جهده ومهاراته وإتقانه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة- منهم- رجل استأجر أجيرًا فاستوفي منه فلم يعطه أجره..."، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: صلى الله عليه وسلم: "أعطوا الأجير حقه قبل أن يجفَّ عرقه".
· أن يكون أجر العامل عادلاً؛ بحيث يوفِّر له الحياة الكريمة من الطعام والشراب والملبس والمسكن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إخوانكم خوَلكم، جعلهم الله تحت أيديكم؛ فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس".
· عدم تكليف العامل بما لا يطيق، وعدم إرهاقه بالأعمال الشاقَّة التي لا يقدر على إنفاذها، فإن فعلنا شيئًا من ذلك أعنَّاه بأنفسنا أو بغيرنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم".
· الضمان الاجتماعي، فمن حق كل مواطن تأمين راحته ومعيشته كائنًا من كان، ما دام مؤديًا واجبه أو عاجزًا عن هذا الأداء بسبب قهري لا يستطيع أن يتغلَّب عليه، ولقد مرَّ عمر بن الخطاب على يهودي يتكفَّف الناس، فزجره واستفسر عما حمله على السؤال، فلما تحقَّق من عجزه رجع على نفسه باللائمة، وقال له: "ما أنصفناك يا هذا!! أخذنا منك الجزية قويًّا وأهملناك ضعيفًا، افرضوا له من بيت المال ما يكفيه".
· التشجيع المستمر والثناء على المجدِّين في عملهم، والمتقنين في مهنتهم، والمتفانين في صنعتهم، وهذا من أعظم الحوافز للإتقان والجدّ وزيادة الدقة والإحكام.
إننا ندعو العمَّال في يومهم إلى أن يتحلَّوا بأخلاق الإسلام ومبادئه، وأن يُعطوا من أنفسهم القدوةَ الصالحةَ للأمة، ويجعلوا أفعالَهم وإنجازاتِهم تتحدث عنهم؛ طلبًا لرضا الله سبحانه وتعالى، ورفعةً لشأن أوطانهم.
والله أكبر ولله الحمد
وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.