طريق المغفرة
الحمد لله رب العالمين كتب على نفسه الرحمة، أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يفرح بتوبته عبده وهو غني عنه، والعبد قد يعرض وهو فقير إليه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله كان يتوب إلى ربه ويستغفره في اليوم أكثر من سبعين مرة .
اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وآله وارض اللهم عن أصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين..
أما بعد أيها الناس اتقوا الله ربكم، وتوبوا إليه من ذنوبكم، ولا تقنطوا من رحمة الله مهما بلغت ذنوبكم، فإنه يغفر الذنوب جميعا لمن تاب وأناب.
بقول الحق تبارك وتعالى في صفات المتقين : ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) (آل عمران : 135) .
ويقول تعالى مؤكدا توبته ومغفرته لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى : ((وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى)) (طه : 82) .
ويفتح الله طريقا إلى التوبة بالاستغفار وهو يوجه رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول : ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً)) ( النساء : 64) .
أيها المسلمون.. ومن ذا الذي لا يخطئ في هذه الحياة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون))[1].
ولاشك أن الناس متفاوتون في حجم أخطائهم على قدر إيمانهم ويقينهم بخالقهم، وعلى قدر خوفهم من العذاب أو صبرهم على الطاعات.. ومع ذلك كله فالله يفتح باب الرجاء لمن زلت به قدمه أو عثر به لسانه، أولم تطاوعه جوارحه فسبقته إلى المعاصي.
ويقول الباري جل جلاله: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) ( الزمر: 53) .
بل لعل الله تعالى يريد من الخلق أن يبقوا دائما وأبدا على صلة به فهم يحبونه ويتبعون أمره في حال عبوديتهم وطاعتهم وإقبالهم على الخيرات وجمع الحسنات ..وهم يخشونه ويطلبون منه المغفرة في حال ضعفهم وزلتهم إذ لا نصير لهم إلا الله..ولا مجيب لهم سواه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم)) [2].
وهذا الحديث كان يكتمه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه رغم معرفته به ولم يتحدث به إلا حينما حضرته الوفاة وقال: ((كنت كتمت عنكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوف أحدثكموه وقد أحيط بنفسي ثم ذكر نحوا من الحديث السابق)) [3].
أخي المسلم وينبغي أن تحذر المعاصي ما ظهر منها وما بطن قدر طاقتك فهي لا تزال بصاحبها حتى تورده المهالك.. ومع ذلك فينبغي ألا تيأس من روح الله ورحمته،وألا يصيبك الإحباط والقنوط مهما بلغت ذنوبك،شريطة أن تقبل على الله ، وأن تقف ببابه معترفاً مستغفراً ، وإليك قصه هذا الرجل الذي تكرر ذنبه
وفي كل مرة يقف بباب الله سائلا مستغفرا، فلم يخب. أمله.
فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن ربه تبارك وتعالى قال: ((أذنب عبد ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب . ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك، قال عبد الأعلى: لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة اعمل ما شئت)) [4].
وفي رواية بمعناه وفي الثالثة قال: ((قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء)) قال الحافظ في الفتح، قال القرطبي: وفائدة هذا الحديث أن العود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه لأنه انضاف إلى ملابسة الذنب نقض التوبة، لكن العود إلى التوبة أحسن من ابتدائها، لأنه انضاف إليها ملازمة الطلب من الكريم والإلحاح في سؤاله ، والاعتراف أنه لا غافر للذنب سواه، ثم نقل الحافظ كذلك عن النووي قوله في الحديث أن الذنوب ولو تكررت مائة مرة، بل ألفاً وأكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته أو تاب عن الجميع توبة واحدة صحت توبته)) وقوله: ((اعمل ما شئت)) معناه: ما دمت تذنب فتتوب غفرت لك [5].
أيها المسلمون : ما أعظم فضل الله : والمرء يمكنه بتوفيق من الله أن يخرج من ذنوبه وأن يتخفف من سيئاته، بملازمة الاستغفار، وهي كلمات يسيرة ((أستغفر الله.. أستغفر الله..)) أو نحوها .. ولاشك أن الذي يقولها من قلب حاضر مستشعر
لمعناها.. ومعترف بمغزاها يختلف عمن يقولها بلسانه وقلبه مشغول عنها.. وهذا ديدن الذكر كله فهو يحتاج إلى حضور قلب وتعظيم للخالق.
وهناك طريق للتوبة والاستغفار حفظه لنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم
الصحابة الأطهار الذين كانوا يعقلون ما يسمعون، ويعملون بما يعلمون.
فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (( كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته ، وإن أبا بكر رضي الله عنه حدثني وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من رجل يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له )) [6]
إخوة الإسلام .. والاستغفار دأب الصالحين، ومنهج الأنبياء والمرسلين، وهذا صفوة الخلق وأكرمهم على الله، والذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر في اليوم مائة مرة...... كما روى ذلك مسلم في صحيحه [7].
وقبله كان هود عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: ((وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ)) (هود : 52) .
وقبلهما قال نوح عليه الصلاة والسلام لقومه : ((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً)) (نوح : 10) .
لاوإن الأنبياء أعرف الخلق بالله وأخشاهم له، مع قلة أخطائهم وكثرة عبادتهم.. وقوة صلتهم بخالقهم.. ولكن من كان به أعرف كان منه أخوف.. وكلما ازداد العبد قربا من الله زاد منه خوفا ووجلا.
والخائفون في هذه الحياة هم الآمنون المطمئنون بعد الممات، ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية.. إلا أن سلعة الله الجنة.
وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم... نفعني الله وإياكم بهدي كتابه..
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله..
أيها المسلمون.. وللاستغفار فوائد جليلة، وآثار حسنة كثيرة.. ومن آثار الاستغفار وفوائده.. قوة التعلق بالله جل جلاله، فإن الغافلين اللاهين أبعد الخلق عن الله.. وكلما كثر استغفار العبد لخالقه كان دليلا على قربه منه وحضوره في قلبه.
وللاستغفار أثر في تفريج الهموم وإزالة الكروب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب)) [8].
والذي يلازم الاستغفار لا يعد من المصرين على الذنوب، ولاشك أن الإصرار على الذنب آفة عظمى وسبب حائل دون مغفرة الله، وقد جاء قي الحديث : ((ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة ))[9].
والاستغفار سبب لمغفرة كبار الذنوب فضلا عن صغائرها، ولابد من التنبيه للصيغة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى سبيل المثال يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفرت ذنوبه، وإن كان قد فر من الزحف))[10].
ومن صيغ الاستغفار التي ينبغي معرفتها والعمل بها سيد الاستغفار فافقهوا سيد الاستغفار، وتأملوا ما فيه من الأجر والمغنم وهو أثر من آثار الاستغفار.
يقول صلى الله عليه وسلم : (( سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل ا لجنة)) [11].
والاستغفار معاشر المسلمين طريق الجنة، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيراً))[12].
والاستغفار جلاء للقلوب ، وقد قيل ((إن للقلوب صدأ كصدأ النحاس، وجلاؤها استغفار))[13].
وروى البيهقي بإسناد لا بأس به ((من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار))[14].
وعليك أخي المسلم ألا تستعظم ذنوبك مهما بلغت أمام مغفرة الله وعفوه، وما أجمل كلمة قالها أعرابي شوهد متعلقا بأستار الكعبة ويقول : ((اللهم إن استغفاري مع إصراري لؤم ، وإن تركي الاستغفار مع علمي بسعة عفوك لعجز، فكم تتحبب إلي بالنعم مع غناك عني وأتبغض إليك بالمعاصي مع فقري إليك، يا من إذا وعد وفى، وإذا توعد تجاوز وعفا، أدخل عظيم جرمي في عظيم عفوك يا أرحم الراحمين))[15].
وعليك أخي المسلم ألا تتألى على أحد، وتنصب من نفسك حكما عليه، وتظن أن الله لا يغفر لفلان لكثرة ذنوبه، أو لا يهدي فلانا لكثرة أخطائه ومعاصيه،
فالقلوب بين يدي الرحمن يقلبها كيف يشاء، وباب التوبة مفتوح.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ((أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان: وأن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، فإني قد غفرت له وأحبطت عملك)) [16].
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا وأنت راض عنا,,,