الرواحل : عدد الرسائل : 479 العمر : 76 الموقع : الجزائر المزاج : احمد الله واشكره على كل حال أقطن في : الجزائر علم بلدي : الترقية : نقاط التميز في الرواحل الإسلامية الشاملة : 26114 الأوســــمة : التميّز : 14
موضوع: المعركة مع اليهود لماذا والى اين؟ الأحد 26 فبراير 2012, 15:22
المعركة مع اليهود لماذا وإلى أين ؟
إن الحمد لله نحمده ونستعينه.. إخوة الإسلام : وهُناك ظاهرةٌ تلفتُ النظر في كتابِ الله لمن تدبرَ وتأمل، فعلى الرغمِ من ذكرهِ للأممِ والشعوبِ البائدة، وحديثهِ عن الشرائعِ والرسالات السابقة، فقد كان له تركيزٌ أكثر واهتمامٌ أكبر ببني إسرائيل وأنبيائهم عامة، وبأُمةِ اليهودِ ونبيُّ الله موسى عليه السلام خاصة. فما من أمةٍ من الأممِ إلا تناول القرآنُ تفصيل نشأتها، وتاريخ تكوينها، وبيانِ أحوالها، ودقائق مواقفها، ودخائلَ نفوسِ أفرادها، وخصائص شخصيتها، مثلَ أمة اليهود. فأولُّ ما يبدأُ الحديثُ عن البشر بعد هبوطِ آدم من الجنةِ في سورةِ البقرة، يبدأُ عن بني إسرائيل: (( يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)) (البقرة:40) . ويستمرُ الحديثُُ عنهم في نيفٍ وثمانين آية، وتتكررُ في أكثرِ من ثلثِ سورِ القرآن، وفي أولِّ سورةٍ (الفاتحة) والتي يكررُها المسلمون يومياً في كلِِّّ فريضةٍ من فرائضهم، ونوافلهم ما شاءَ الله، ("ولا صلاةَ لمن لم يقرأ بفاتحةِِ الكتاب ") في هذهِ السور يردُ البيانَ الإلهي عن انحراف اليهود والنصارى، ويلتجأُ المؤمنون إلى ربهم، ألا يسلكَ بهم سبيلهم : (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)) (الفاتحة:7) . وأوَّلُ سورةٍ بعد الفاتحة تُسمى سورةُ البقرة، وهي بقرةُ بني إسرائيل، السورةُ الثالثة بآلِ عمران، وآلُ عمران أسرةً من أسرِ بني إسرائيل- وإن كانت تختلفُ عن بني إسرائيل في طاعتها وصدقها وعبادتها، ولذلك اصطفاها اللهُُ من بين من اصطفى: ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)) (آل عمران:33) . والسورةُ الرابعة تُسمى سورةُ المائدة، وهي المائدةُ التي طلبها بنُو إسرائيل، بل وخُصصت سورةٌ باسمهم هي سورةُ الإسراءِ التي تُسمى سورة (( بني إسرائيل)) أيضاً. وليسَ هُناك من نبيٍّ ورد التفصيلُ عنهُ أكثرَ من موسى- عليه السلام- مع اليهود، فما السرُّ وراءَ هذا التركيز والاهتمام؟ ألكثرتهم ؟ فقد كان اليهودُ ولا يزالون أقليةً في العالم لا يُؤبه لعددهم. أم لأنَّ لهم كياناً معتبراً، ودولةً كبيرةً حين نزلَ القرآن؟ فالحقُّ أنَّهم ليسوا كذلك كما كان الفرسُ والروم وسائرُ الدولِ الوثنية الأخرى. إذاً فما وراءَ هذا الاهتمام؟ قد يكونُ لكثرةِ تعنُّتهم، وشدةَ صبر أنبيائهم عليهم، فينهى المسلمون عن محاكاتهم، ويُسلي النبي ويصبر على ما يلقى من أذى وعناد قومه، قد يكونُ ذلك من أسرارِ هذا التكرار، وقد يكونُ السرُّ في ذلك أن كتابهم المنزلُ (التوراة) فيه من العقائدِ والأحكامِ ما ينشئُ أمةً ويكوِّن سلطةً ودولة، وكانت مواقفهم من هذهِ التشريعاتِ والأحكامِ مجالاً لبيانِ الحقِّ والصوابِ فيها، وقد يكونُ وراءَ ذلك جوارهم لمهبط الوحي، وشدةَ احتكاكهم بالعربِ والمسلمين. كلُّ ذلك وغيرهِ واردٌ أن يكونَ وراءَ الاهتمامُ بهم بهذا القدر، وهُناك خلصَ إلى سببٍ آخر فوقَ ما ذكرَ واعتبره الأهم، ألا وهو: أنَّ الصراعَ بين اليهودِ والمسلمين سيبقى إلى يومِ القيامة، وكلمَّا خمدت جذوةُ الصراعِ في منطقةٍ أو في عصرٍ من العصور، ستتجددُ في مكانٍ آخر، وفي أزمنةٍ متلاحقة، وفي صورٍ شتى، فلا غرابةَ إذاً أن يكثرَ الحديثُ عنهم، وأن يكشفَ القرآنُ أحوالهم [1]. والمتأملُ في آياتِ القرآنِ الكريم، وأحاديثِ النبيِّ الكريم- عليه الصلاة والسلام- يجدُ ما يعضدُ ذلك، فاللهُ تعالى أخبرَ في كتابه أنَّ إشعالهم للحروب دائمة، وكذلك إفسادهم، ولكن الله تعالى تولى إخماد حربهم، وكرهِ إفسادهم: (( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)) (المائدة: من الآية64) . كما تكفلَّ اللهُُ تعالى ببعثِ جندٍ من جنده لتقليمِ أظافرِ اليهود، كلمَّا تطاولت إلى بومِ القيامة : (( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)) (لأعراف:167) . وأخبرَ اللهُ بني إسرائيل في الكتابِ الذي أُنزل عليهم أنَّهم سيُفسدون في الأرض مرتين، وسيُسلطُ عليهم من يجوسُ ديارهم، ويستبيحُ بيضتهم (( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً)) (الاسراء:5) . وسواءً كان المسلطُ عليهم في الأُولى جالوت أو بختنصر أو غيرهما، وفي الأُخرى محمدٌ- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أو غيرهم. فقد حكمَ اللهُ عليهم بالهزيمةِ في الدنيا متى عادوا للإفسادِ، مع ما يدخرهُ لهم في الآخرةِ من العذابِ والنكال : (( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً )) (الاسراء:8) . هذا في القرآنِ وفي صحيح السنةِ أخبرَ المصطفى- صلى الله عليه وسلم- عن الملاحمِ التي تكونُ في آخرِ الزمان، ومن بينها الحربُ مع اليهود (( وأن الساعة لا تقوم حتى يقاتل المسلمون اليهود فينادي الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله إن خلفي يهودياً فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)) [2]. وأخبرَ النبيُّ- صلى الله عليه وسلم- في حديثٍ آخر، أن اليهودَ يستمرُ خُبثهم، ويمتدُّ كفرهم حتى يكونوا من جندِ المسيح الدجال في آخرِ الزمان، يقولُ- عليه الصلاة والسلام-: ((يتبعُ الدجالُ من يهودِ أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة)) [3]. والفرقُ كبيرٌ، والمسافةُ بعيدةً بين من يستعيذُ من فتنةِ الدجالِ كلِّ يومٍ عدة مرات، وبينَ من يكونُ من جندهِ وأتباعهِ حتى الممات؟ وإذا انتكست المفاهيمُ والقيمُ، وانطمست الحقائقُ فلا حولَ ولا قوةَ إلاَّ بالله، ولا يغيرُ ذلك من الحقِّ شيئاً. أخوة الإسلام : إذاً هذه أُمةٌ هذا شأنها، وتلك بعضُ أخبارها في القرآنِ والسُنة، فلا عجبَ أن يهتم القرآنُ بذكرها. بل ولعلَّ المُطَّلعُ في القرآنِ يعجبُ حين يلحظُ تقدمُ ذكرِ اليهودِ في القرآن، فلم يتأخرَ حديثُ القرآن عن اليهودِ إلى الفترةِ المدنيةِ، حيثُ جاوروا المسلمين وبدأَ الاحتكاكُ والعداءُ ينشبُ بينهم، وإنَّما تقدمَ الحديثُ عنهم في الفترةِ المكية، فلماذا كان الحديثُ عنهم في مكةَ ولم يكن لهم بها شأنٌ يذكر؟ وقد شُغل المسلمون بأذى كفَّارِ قريش وعداوتهم، ومع ذلك جاءَ الحديثُ عن معتقداتهم ومواقفهم مع أنبيائهم كما في سورتي الأعراف وطه المكيتين . لو كان الأمرُ متروكاً للاجتهادِ البشري، لقيلَ أنَّ الأولى عدمُ التعرضِ لليهودِ في المرحلةِ المكية، لعدمِ كثرةِ اليهود في مكة، وعدمُ الاحتكاكِ مع المسلمين، ولا داعي لفتحِ هذهِ الجبهةِ والجبهةُ قائمةً لمجابهةِ المشركين، خاصة وأنَّ المسلمين كانوا مُستضعفين في مكة يخافون أن يتخطفهم الناسُ من حولهم ؟ أمَّا وإنَّ الوحي إلهي، والتخطيطُ للمعركةِ، وتحديدُ الجبهاتِ رباني، فلا شكَّ أنَّها لحكمةٍ عظيمةٍ وغاياتٍ كبيرة، ولعلَّ من أبرزِ هذه الحكم أن تعلمَ الأجيالُ الإسلاميةِ اللاحقةِ من آياتِ الكتابِ الحكيم، أنَّ معركةَ المسلمينَ مع اليهودِ معركةً مستمرةً بغضِّ النظرِ عن المواقعِ التي يحتلُها كلٌّ من الطرفين، قوةً وضعفاً. أخوة الإيمان: وتأملوا في قولهِ تعالى : (( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ )) (لأنفال: من الآية60) ، والآياتُ قبلها وبعدها، ولعلهُ من اللطائفِ القرآنيةِ الدقيقة، أن يأتي الأمرُ بإعدادِ القوةِ لإدخالِ الرعبِ والرهبةِ إلى قلوبِ الأعداءِ في سياقِ الحديثِ عن المعاهدات، ونقضِ اليهودِ لها في كلِّ مرة، فإنَّ المُعاهدةَ ليست سوى حبرٍ على ورق، لا أثرَ لها في الواقع، إن لم تكن مدعمةً بالقوةِ التي ترتعدُ لها فرائصُ العدو، كُلَّما فكَّرَ في نقضها أو إبطالِ مفعولها، وبعد الأمرُ بإعدادِ القوةِ الرهيبةِ يأتي الحديثُ عن السلم، لأنَّ السلمَ إن لم يكُن من موطنِ القوةِ والعزةِ فهو تنازلٌ للعدو، وخضوعٌ لشروطهِ، فيكونُ استسلاماً لا سلاماً. اقرأ ذلك كلهُ في قولهِ تعالى : (( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) [4] وليستشفوا من خلالِ الآياتِ القرآنيةِ، أنَّ المعركةَ معركة المنهجِ الرباني والصراطُ المستقيم ضدَّ المناهجِ البشريةِ الجاهليةِ المُحرِفة لشرعِ الله ووحيه، والساعيةِ للإفسادِ في أرضه! هذا كلهُ فضلاً عن بناءِ الشخصيةِ الإسلاميةِ بناءً متميزاً بتوضيحِ الحقِّ، ورسمِ ملامحه، وفضحِ الباطلِ وكشفِ رموزه، ورغبةً في سدِّ الباب على المتقولين أنَّ محمداً أخذَ من اليهودِ ما احتاج إليه، ثُمَّ حسِدهُم وناصبهم العداءُ بعد الاحتكاكِ بهم، لو تأخرَ كشفُ باطلهم إلى الفترةِ المدنية. كما أنَّ المؤمنَ قد أُعطى علاجاً وقائياً لما قد يتعرضُ لهُ عند الاطلاعِ على عقائدِ اليهود، وعندَ التعاملِ مع يهود [5]. إخوة الإسلام : هذه وتلك- أعني مزيدَ اهتمامِ القرآنِ باليهودِ في سوره وآياته، وتقدمَ الحديثُ عنهم في السورِ المكيةِ قبلَ أن يبدأ الاحتكاكُ معهم في المدينة، تلك معالمٌ قرآنية في الصراعِ مع اليهود، وهي تستدعي منَّا وقفةً مُتأنيةً مُتأملة، تدعونا إلى العلمِ بطبيعةِ هؤلاءِ اليهود، وتُعرفُنا بحجمِ المعركةِ بيننا وبينهم، ويجبُ أن تهدِينا إلى أخذِ الحذرِ والحيطةِ والاستعدادِ لهم بكلِّ ما أُوتينا من قوة، ولا يدري إلاَّ اللهُ من ذا الذي سيُسلطُ عليهم في الجولةِ التاليةِ وما بعدها إلى يومِ القيامة، وليس أصدقُ من كلامِ الرحمن : (( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً)) (النساء: من الآية122) وليس أهدى من القرآن (( إن هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ )) (الإسراء: من الآية9) فهل يعي المسلمون حقائقَ القرآن، وهل يأخذوا بتوجيهاتهِ وأحكامه.
الخطبةُ الثانية الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، يُعزُّ من يشاءُ ويذلُ من يشاء، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريك له، يفعلُ ما يشاءُ ويحكمُ ما يُريد، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسولهُ وخيرته من خلقه، بلَّغَ الرسالة، وأدَّى الأمانةَ، ونصحَ الأُمة، وتركها على المحجة البيضاء، لا يزيغُ عنها إلاَّ هالك، اللهمَّ صلِّ وسلم عليهِ وعلى سائرِ المنذرين. أمَّا بعدُ أيَّها المسلمون: فإذا كانت هذهِ بعضُ معالمِ القرآنِ عن اليهود، فثمةُ معالمٌ أُخرى تكشفُ حقيقةَ وتاريخِ اليهود، وتبينُ عن جانبٍ من إعجازِ القرآن الكريم، وتحققُ نبوةَ النبي- صلى الله عليه وسلم- في هؤلاءِ الأقوام . ومن هذهِ المعالم: نقضُ العهودِ والمواثيقُ من جبلتهم، والحرصُ على الحياةِ والتخاذلُ عند اللقاءِ طبعٌ فيهم، عداوتُهم للإنسانيةِ عامة، وللمؤمنينَ خاصة، وتسليطُ الشعوبِ والأُممِ عليهم كلَّما اشتدَّ فسادهم، والتفرقُ والشتاتُ والخلافُ ماضٍ في اليهود، إلى غير ذلك من معالمِ، أُرجأُ الحديث عنها إلى خطبةٍ لاحقةٍ بإذن الله. ويبقى السؤالُ المُهمُّ: متى يتحققُ وعدُ اللهِ الصادقِ في اليهود؟ وأستعجلُ الإجابةَ عليهِ قبلَ إكمالِ حقيقةَ اليهود، واستيفاءَ المعالمِ الأُخرى حتى تنشرحُ الصدور، ويذهبُ ركامُ اليأسِ والإحباطِ المسيطرَ على بعضِ القُلوب، وأرجو أنَّ ذلك داعياً ومهيئاً لاستكمالِ الحديث عنهم لاحقاً. وأبدأُ إجابةَ السؤالِ بوقفةٍ إيمانيةٍ جميلة، لصاحبِ الظلالِ وهو يقفُ عند معنى تعالى (( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ )) (لأعراف: من الآية167) .. الآية، حيث قال سيد قُطب- رحمه الله-: ولقد يبدو أحياناً أنَّ اللعنةّ قد توقفت، وأنَّ يهودَ قد عزَّت واستطالت! وإن هي إلا فترةٌ عارضةٌ من الفتراتِ ولا يدري إلاَّ اللهُ من ذا الذي سيُسَلطُ عليهم في الجولةِ القادمة [6] . ويقولُ صاحبُ كتابِ (مكائدَ يهوديةٍ عبرَ التاريخ) : ( في دوامةِ الأحداثِ الجسام، التي خطَّطَ لها اليهودُ في العالم، وعملوا على تنفيذها بما عُرف عنهم من مكرٍ وخُبثٍ ودهاء، وعملٍ دائبٍ في الظلامِ بعيداً عن الأنوارِ الكاشفة، ومع الظفرِ الذي حققوهُ في العالمِ لقسطٍ كبيرٍ من أهدافهم، ومع الأشواطِ التي قطعوها في مراحلِ سيرهم، لفرضِ سلطانهم على العالم، وضمنَ هذه الزوبعةَ التاريخيةِ التي مشت في صالحِ اليهوديةِ العالمية، وضدَّ المسلمين طُوالَ حُقبةٍ من الزمن، نجدُ الذين لا خبرةَ لهم بمُفاجآتِ الأحداثِ التاريخيةِ التي يُجريها اللهُ وفق سننهِ الدائمة، ولا الإيمانُ عندهم بما يقضيهِ الُله ويُقدره، كلَّما احلولكَ على الإنسانيةِ ليلُ الفسادِ المستشري، قد يُخيلُ إليهم أنَّ نجمَ اليهودِ سيظلُ في صعودِ مُطَّرد، حتى يُحققوا أحلامهمُ البعيدةِ دُونَ أن ينقلبَ عليهم ظهرُ المِجنِّ، ودونَ أنَّ تحلَّ بهم نقمةُ الله، ويبعثُ عليهم من يسُومَهم سُوء العذاب، جزاءَ ما اقترفوهُ من إثمِ الإفسادِ والتضليلِ في حقِّّ جميعِ الأُممِ والشعوب ) . إنَّ هذه التخيلاتِ لا بُدَّ أن تتبدد في قلوبِ المؤمنين، ليحلَ محلَّها الثقة بعدلِ الله، والأملَ بنصرهِ المُبين لأوليائهِ على أعدائه، مهما طالت فترةُ الابتلاءِ، وامتدَّ أجلُ العقوبةِ الربانيةِ للمسلمين، الذين تنكبوا طريقَ الهدايةِ، واستجابوا لدُعاةِ الضلالِ، وتأثروا بزُخرفِ الحياةِ الدنيا وزينتها، ومظاهِرَها الفاتنة، فسلطَ اللهُ عليهم بذنوبهم أمةً طردها اللهُ من رحمته، وغضبَ عليها بسببِ ما كانَ منها من إثمٍ عظيم، وإفسادٍ في الأرض جسيم، تأديباً لهم وعظةً قاسية، حتى يصلحُوا نفوسهم، ويصححوا إسلامهم، وينظفوا صفوفهم من الدُخلاء فيهم. ومتى حقق المسلمونَ الشروطَ الربانيةِ التي جعلها اللهُ أساساً لنيلهم تاجُ النصرِ على عدوهم، فتحَ اللهُ لهم مغاليقَ الأبواب، وهيَّأ لهم أفضلَ الوسائلِ و الأسباب، وحققَ لهم وعدَ رسولهِ في قولهِ- صلوات الله عليه-: ((لا تقومُ الساعةُ حتى يُقاتل المسلمون اليهود، وحتى يختبئُ اليهودي من وراءَ الحجر والشجرِ فيقولُ الحجرُ والشجر: يا مسلمُ هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلاَّ الغر قد، فإنه من شجرِ اليهود)) [7] . فلقد أخبرنا الرسولُ- صلى الله عليه وسلم- بهذه النبوءةِ المستقبلة، قبل نيفٍ وثلاثة عشر قرناً، حينما لم يكن لليهودِ قوةً تُذكرُ في الأرض، وظلَّ اليهودُ في الضعفِ والتشتتِ منبثين في كلِّ أُمةٍ عبر قرون، ومرت هذه القرون، وظلَّ التاريخُ صامتاً لا يُحدثُنا بتحقيقِ نبوءةِ رسولِ الله- صلوات الله عليه-- حتى دخلَ القرنُ الرابع عشر الهجري، الذي بدأت فيه إنذاراتُ المعركةِ الفاصلةِ بين المسلمين واليهودِ تلوحُ، وفي أفقِ المستقبل، منذُ بدأت تطفو على سطحِ السياسةِ العالميةِ، ظواهرُ المؤامرات والدسائسَ اليهوديةِِ التي تجري في أعماقِ محيطاتها، وحينما أخذتِ الأحداثُ العالميةِ تُهيئُ لليهودِ هجرةً إلى قلبِ البلادِ الإسلامية، ليُنشئوا فيها الدولةَ النواة، لدولةٍ يهوديةٍ كبيرةٍ، ذات علوٍّ في الأرض، تطمعُ حشداً كبيراً من اليهود المنبثين في العالم، أن يهاجروا إليها، ويتخذوا في أرضها إقامةً لهم، مُدعَّمةً بالقوى المُسلحةِ التي تمدهم بها أممٌ ذات قوةٌ كُبرى في الأرض. وقد كان من الأمورِ المُتحتمةِ لتحقيقِ النبوءةِ النبوية، أن يتفاقمُ أمر اليهود على المسلمين، وأن يتحقق لهم بعض الظفر الصوري في عدة معارك، وذلك لأمرين: هما: عقوبة المسلمين على انحرافهم عن صراط الله في عقيدتهم وعملهم وتأديبهم حتى يراجعوا دينهم ويصلحوا أعمالهم ويطهروا صفوفهم من أعدائهم. ثانيهما: تيسيرُ السبل أمام أكبر قدرٍ من اليهود المقضي عليهم بحلولِ نقمة الله، بإغراءات الظفر المؤقت، ليهاجروا إلى موطنِ المعركةِ القادمة، حتى يلاقوا مصيرهم المنتظر، الذي هو قادمٌ لا محالةَ بإذن الله تحقيقاً من الله لنبوءة رسوله، ولا بُدَّ مع ذلك أن تجري الأحداثَ وفقَ سننِ الله الدائمةِ في كونه. ولكن لن يُكتبَ الظفرُ الموعودُ به على لسانِ الرسول- صلوات الله عليه- ما دامت الأمةُ الموعودةُ به تسيرُ في متعرجاتٍ مظلمةٍ من الطرق، بعيدة عن صراط الإسلام في مفاهيمها الاعتقادية، وأنظمتها الاجتماعية، وسلوكها المجافي لتعاليمِ الإسلام، والعدو يعرفُ هذا، فلا يزالُ همُّه أن يبعدَ الشعوب الإسلامية عن عقائد الإسلام وتطبيقاته، ليطيلَ أمدَ بقائه. ووعد الرسول- صلى الله عليه وسلم- بالنصرِ لم يكن لقومٍ ضد قوم، ولا لعنصرٍ ضد عنصر، ولا لإلحادٍ ضد دينٍ محرفٍ مزيف، ولكنه وعدٌ للمسلمين ولن يتحقق هذا الوعدُ لمن لبسوا صفةً أخرى غير صفة الإسلام، ولن يكونَ هذا الظفرُ ظفرُ معركةٍ فحسب، ولكنَّه ظفرٌ شامل، ينكشفُ اليهودُ فيه داخلَ مُعظمِ مخابئهم، حتى تنزلَ فيهم عقوبةَ اللهِ على أيدي المسلمين الصادقين، ولن يفلت منهم إلاَّ قليل قليل، تقدر نسبتهُ بنسبة شجرِ الغر قد إلى سائرِ الأشجار والمخابئِ والحصون. فمن تكونُ هذه الفئةُ التي تتبنى الإسلام بصدق، وتخوضُ المعركةَ بإخلاص، حتى تنال مجدُّ النصر على العدو الرابض في ديارنا ؟ طوبى لمن كان رائدُ هذه الفئة، طوبى لمن كان قائداً فيهما، طوبى لمن كان جندياً من جنودها، [8] طوبى لمن شرفهُ الله بالجهادِ الحقِّ تحت رايةِ الإسلام الناصعة، بعيداً عن راياتِ الجاهلية، بعيداً عن المُزايدات السياسية، والخيانات المؤلمة، ودون جعجعةٍ إعلاميةٍ مُضللة. (( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ)) (الرعد: من الآية17) [9].