علم الخرائط:
لا يُنكِر أحد أن الغرب قد استفاد من مجهوخريطة الإدريسيدات المسلمين في علم الجغرافيا عامة أيَّما استفادة.. إلا أن (أطلس الإسلام) أو الخرائط الإسلامية كانت في مقدمة مظاهر التأثير الإسلامي المباشر في الحضارة الغربية.
فقد تخطَّف (الغرب) مؤلَّف "الإدريسي" (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) وقاموا بطباعته طبعات كثيرة ومختلفة، حتى ظل هذا الكتاب مصدرًا أساسيًّا لدارسي الجغرافيا الأوروبيين على مدار أكثر من أربعة قرون!!..
صمم "الإدريسي" خريطته على الطريقة العربية في ذلك الوقت, حيث بدأ بالجنوب في أعلى الخريطة, ثم انتقل إلى الشمال في أسفلها.. كما تتكون مخطوطة الخريطة من 70 ورقة (33×21سم) تصل إلى نحو خمسة أمتار مربعة. وقد قام العالم الألماني "كونراد ميلر" بنشر نسخة مُلَوَّنة منها سنة 1928م, بعد أن بذل مجهودًا خارقًا من أجل تجميع أجزائها المختلفة, وترجمة الأسماء العربية إلى الألمانية... ثم اهتمَّ المجمع العراقي بهذا الكتاب؛ فعمل باحثوه على مراجعة وتدقيق كل النسخ الموجودة في العالم، وأخرجوا خريطة الإدريسي وطبعوها سنة 1951م وهي بطول مترين وعرض متر واحد..
تصحيح أخطاء السابقين:
وبين يدينا الآن شهادة لمؤرخ غربي مشهور هو "جوستاف لوبون" الذي ستؤكد كلماته ما سبق بخصوص تفوق المسلمين في مجال الخرائط.. إلى جانب أنها ستضيف إلى عظمة إسهامات المسلمين في الجغرافيا بُعدًا جديدًا بالغ الأهمية.. يقول"جوستاف لوبون": "يكفي أن نشير إلى ما حققه العرب في الجغرافيا لإثبات قيمتهم العالية؛ فالعرب هم الذين عيَّنُوا بمعارفهم الفلكية مواقع الأماكن تعيينًا مضبوطًا في الخرائط، فصححوا بذلك أغاليط علماء اليونان، والعرب هم الذين نشروا رحلاتهم الممتعة عن بقاع العالم التي كان يشك الأوربيون في وجودها، والعرب هم الذين وضعوا الكتب الجغرافية التي جاءت ناسخة لما تقدمها، فاقتصرت أمم الغرب عليها وحدها قرونًا كثيرة..."
فالروعة والإنجاز لا يتجسدان فقط في الجديد الذي قدَّمه الجغرافيون المسلمون للعالم.. وإنما يتجسد الإنجاز وتتجلى الروعة كذلك في التصويب والتعديل الذي عاد به عباقرة الجغرافيين المسلمين على التراث الجغرافي اليوناني.
لقد وقع "بطليموس" – وعلى الرغم من براعته المعروفة - في العديد من الأخطاء عند تحديد الأطوال والأعراض:
• من ذلك أنه بالغ كثيرًا في تحديد طول البحر المتوسط..
• وبالغ في تحديد امتداد الجزء المعمور من الأرض المعروف له..
• وجعل المحيط الهندي والهادي بحيرة!!! وذلك عندما وصل جنوبي آسيا بجنوبي أفريقيا..
• وبالغ في تحديد حجم جزيرة "سيلان"..
• وأخطأ في وضع بحر قزوين والخليج العربي خطأً فاحشًا...
صحح المسلمون كل هذه الأخطاء وغيرها، ولم يأخذ الغرب هذه التعديلات إلا عنهم.. ومن هنا يتجلى دور المسلمين في إنقاذ الدراسات الجغرافيَّة من التشوُّهات العلمية والمنهجيَّة.. كما رأينا من قبل دورهم في إنقاذها من بطش السلطة الكنسيَّة الغاشم..
وقد بدأت تلك المسيرة التصحيحية منذ عهد الخليفة "المأمون" (ت: 218هـ - 833م).. فقد أسدت الخريطة المأمونية (التي أمر علماء عصره بتنفيذها) إلى الحضارة الغربية فضلاً عظيمًا رغم ضعف إمكانات المسلمين من حيث الأجهزةُ الجغرافيةُ في ذلك العصر، وقام المسلمون بإدخال الكثير من التعديلات الهامة على خريطة بطليموس، وحسنوها وأضافوا إليها الكثير من التصحيحات الجوهرية...
وقد أقبل الغرب على عطاء الجغرافيين المسلمين بشغف واهتمام بالغين؛ فلم يكن الأوروبيون حتى بداية القرن الخامس عشر يرجعون إلا إلى الجغرافيا الإسلامية كما يقرر "كراتشكوفسكي".. وقد ظلت الكارتوغرافيا الأوروبية (علم الخرائط) تعتمد على خارطة الإدريسي حتى قبيل القرن الخامس عشر الميلادي..
وإجمالاً فإنه منذ وقت الإدريسي 1150م إلى حوالي 1450م استمدت الجغرافيا الأوروبية رأسًا من الجغرافيا الإسلامية.. إلا أن تحوُّلاً عنصريًّا أصاب الفكر الأوروبي فيما بين (1450م) إلى (1550م)، فنهضت حملة ضد المسلمين لا أساس لها من العلم، وأسفرت عن تحول الجغرافيين الأوروبيين إلى جغرافيا "بطليموس"!!!.. ولما كان استمرار هذا الأمر غير منطقي فقد اضطر العلماء ثانيةً إلى هجر بطليموس..
الحق أن إسهامات المسلمين في الجغرافيا محيط واسع.. ربما بقدر سعة الآماد المذهلة التي بلغتها رحلات علمائهم الاستكشافية برًّا وبحرًا... وهو الجانب الذي ستحاول الصفحات القادمة الوقوف بنا أمامه..
مقتطف من مقال ماتع للدكتور راغب السرجاني بعنوان : من إنجازات المسلمين في علم الجغرافيا