أدباء الجزائر الشباب والعشرية السوداء بقلم عبد الرزاق بوكبة
انخرط الكاتب الجزائري في التفاعل مع تجليات العنف الذي اجتاح البلاد في التسعينيات، وقد عرف المشهد الأدبي الجزائري نقاشات حادة مع بداية العشرية السابقة حول ما أسماه الطاهر وطار بالأدب الاستعجالي، متهما أصحابه بالتعسف في التعاطي مع اللحظة التي كانت غامضة، في حين رآه واسيني الأعرج تفاعلا طبيعيا في وضع متحرك كان بطلَه الأكبر هو الموت غير العادي.
وظهرت نخبة من الكتاب الشباب بعد تلك المرحلة الصعبة في حياة الجزائريين، وقد كان معظمهم خلال حقبة التسعينيات أطفالا، لكنهم جاؤوا إلى الكتابة من أقاليم الموت الذي رافق مداركهم الأولى في الحياة، فما الذي بقي عالقا في أذهانهم من ذلك الزمن المخيف؟ وكيف تجلّى في نصوصهم الأدبية؟
هذه آراء ستة أقلام تنتمي إلى هذا الجيل، وتملك حضورا قائما على عمق النص، وتجذر الرؤيا، وترفض تصنيفها ضمن إطار معيّن.
رسالة للجيل الجديديقول الكاتب شرف الدين شكري إنه يمكن العثور على تجليات ما عانته الجزائر في العشرية السوداء، وبعدها مما تراكم كمأساة في الذاكرة، في مجموعته القصصية "سَفْرَة المنتهى" التي صدرت عام 2008، وروايته "جبل نابليون الحزين" الصادرة بعدها بسنتين، حيث جمع كلّ مشاهد تلك المرحلة الدامية التي شكلت بانوراما المشهد الآني.
ويضيف شكري "إنني أتقمّص دور فزّاع الطيور حتى أبلّغ رسالة للجيل الجديد من الجزائريين مفادها أن الحروب كلها إرهابٌ، إذ لا توجدُ حرب باردة وأخرى غير باردة، أو حرب ذكية وحرب غير ذكية.. إنها أقسى تجربة قد يعيشها الإنسان".
ويشير القاص علاوة حاجي صاحب ست عيون في العتمة إلى أنه "لا يجد تعبيرا دقيقا لوصف تلك السنوات التي خيّم فيها الإرهاب على مرحلة من عمره، إذ كان ممكنا أن تكون أجمل، لقد كانت آثار الإرهاب متجلية في كلّ مكان، وكنت أرى، بل ألمس الخوف عند كلّ من أعرفهم".
ويضيف "الآن فقط، فهمت أننا كنّا أصغر من أن نستوعب ما كان يحدث، إذ أصبح بمقدوري استيعاب معنى الخوف، أو عدم شعوري بالأمان". وأبدى صاحب رواية "طفل في المحفظة" تخوفه من أن تعود تلك المرحلة بقوله "مرّت عشريتان، ومن المحزن أن ندخل عشرية جديدة بالأسئلة والهواجس ذاتها، هواجس حبلى بالقلق، والخوف من شيء لا نعرف ما هو".
من جهتها قالت الشاعرة لميس سعيدي إنه حين قرأ أحد الشعراء مجموعتها الشعرية الأولى "نسيت حقيبتي ككل مرة" المنشورة في لبنان، حيث تيمة الموت، والرحيل حاضرة بقوة، قال لها إنه جدير بشاعرة في سنها أن تكتب عن الأشياء الرقيقة والناعمة.
بين زمنينوقالت صاحبة ديوان "إلى السينما": "لقد عشت تجربة وضعتني مع الموت وجها لوجه وأنا طفلة، بعينين لا تقويان على التحديق بكراهية أو بخوف، لا تقويان إلا على الحب، مع ذلك لا يتسع المشهد أمامي إلا للحيرة، فانتهى بي الأمر إلى حب هذه الحيرة، والتعود عليها حتى أصبحت العنوان الذي أعود إليه في كل مرحلة من حياتي، بعدما ضاعت مني طمأنينة وسذاجة الطفولة التي لا أجدها إلا في أفلام الكرتون وقصص الأميرات المملة".
من جهته قال الروائي سمير قسيمي الذي أدرجت روايته "يوم رائع للموت" ضمن القائمة الطويلة للبوكر العربية في 2009 "إن للموت دوما قصة في أعمالي، وكأنه بطل خفي يمنعه الحياء من الظهور في أول العرض مخافة أن يكتشف القراء وجهه الحقيقي، ذلك الوجه الذي رآه أول مرة دون قناع، عاكسا في عينيه كل ما تفضي إليه عبارة اغتصاب الحياة من غير حق".
وأضاف صاحب رواية "تصريح بضياع": "لم تمر سنوات الموت في حياتي كعابر سبيل أتذكره لماما... في تلك العشرية الرصاصية كان الموت والموت وحده، بدليل أن أول قصيدة كتبتها كانت عن اغتيال صديق في وادي أشايح".
ويؤكد صاحب رائعة "هلابيل": "الآن أدرك أنني لم أكن شجاعا بقدر ما كنت متهورا، ولعل هذا ما يجعلني فخورا بما كتبت ونشرت حينها، حتى بعد أن طلقت الشعر، وبدأت في كتابة الرواية، وجدت أن أحسن ما يمكنني كتابته هو رواية عن الموت، عن القتل، عن الاغتيال، ولكنه موت وقتل واغتيال أشد وطأة وأبعد مدى".
شاهد على الضياعوقال الروائي والشاعر إسماعيل يبرير إنه كتب عندما كانت آلة الموت تعمل دون تمييز، إذ كان خياره أن يكون كاتبا وشاعرا، في حين كانت الأوضاع تدفع إلى الجنون، لكن بعد أن هدأت الأمور، واتضحت الرؤيا، عاد ليتأمل ذاته في المشهد الرمادي الذي لم يكن في كل الأحوال ليجيل على غير الموت والخراب، فيشعر بأن خياره كان صائبا.
ويقول صاحب رواية "ملائكة لافران" إن "الكثير من القصائد التي كتبتها كانت قاتمة، ولعل روايتي "باردة كأنثى" التي تحولت الآن إلى مشروع روائي آخر، شاهد على ضياع شاب جزائري تحت وطأة الجنون، والعبث الذي استعمر الفضاء".
من جهتها تشير الروائية آمنة شيخ إنه كان عليها -بعد أن استعادت الجزائر رغبتها في الحياة- أن تعيد تأمل المشهد المخرّب، فكتبت نصا روائيا يحتفي بجزائر التسعينيات التي يحاول الكثيرون أن يحذفوها من ذاكراتهم، وذهب البعض في تفسير ذلك إلى أنه حنين في غير محلّه.
وتضيف شيخ "لا يزال في الذاكرة ما لم أقله خاصة ما تعلق بالأجواء العامة للجزائر وقتذاك، كما يبقى الحديث عن العقاب والعفو، وعن الحب والموت أمرا جديرا بالاستثمار إبداعيا".
الروائي إسماعيل يبرير (يمين) مع آمنة شيخ (زوجته) والشاعرة لميس سعيدي وسمير قسيمي
نسيت حقيبتي ككل مرة
لميس سعيديكمٍ الساعة
أرى أطفالا يركضون
بأيديهم دمى بيضاء
وأغطية بيضاء
و قطعة سكر
أقدامهم تحمل الشمس
وأصواتهم علب الألوان
يخترقون جدار اللحم الأسود
ويركبون أمواج الجباه
في صدورهم قلادة فضية
نقش عليها...
وجه الضوء
جاء القطار....
جاء القطار
و نسيت حقيبتي ككل مرة
في غرفة حزني المظلمة
تذكرة سفر مجانية
وصرة
فيها
كسرة شجاعة
ورداء مطرز
بثقوب محبة....
سألعق حشرجة الطين
في رياحهم
وارتدي تمزق الموت
واركب ...
أخشى أن يرحلوا جميعا
و تتبخر جميع السكك
فتاة الأكورديون
في مساء الأقدار المتدلية
من النوافذ الزرقاء
و الشمس بقايا
أحلام معلوكة
تورق الأنامل الخشبية
في أروقة العزف
تشج شفاه العصافير
لترتشف قهوة الفجر الحثيث...
ضحالة اللحم
ضحالة العظم
جسد أرمد
بين براثن طهرها الروحي
أتراب عينيها الكليلتين
بصائر طفولة سرمدية
في قلبها العجوز
منذ... ....ولادة الأرض
صمتها المتهيج
أمام عطور الملح الشهية
لا تلجمه تلك الأمواج بطعم السكر
و لحن البحيرة المترع بالبكاء
يتسول الراجلين
دروب الوحل الرخامية
سيدي...
سيدتي...
قرش صدق
و لو كان متسخا بذنوبكم
مزق الكلام أمعاء أفكاري
و الشرطة تنتظر من يسرق
وميض نقاء يدحر الموت للحظة