إن الحديث عن مؤمن آل فرعون حديث يمسنا جميعاً، يخصني ويخصك، يتعلق بدوري ودورك، ينتصب مثالاً وقدوة لي ولك، إنه فرد في أمة كان فيها رسول داع إلى الله عز وجل، يمثل نموذج المؤمن المنافح عن دينه، المدافع عن رسوله، الذي يدعو الناس إلى الخير، ويرجو لهم النجاة، ويمحضهم النصح، فلنمضي مع هذا المؤمن لنرى ونقارن بين قوله وفعله وأثره ودوره، وبين حالنا الذي نريد أن نغيره إلى الأفضل، كم نحسن الحديث في النقد وتحميل المسئولية للآخرين؟ وكم نقصر ونفرط في كشف عوار أنفسنا؟ وتقصيرنا؟ وما يلحق بذلك من خلل في أمورنا؟ لعل ذلك فيه ما يعيننا { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ْ} [غافر : 28] والرجولة هنا بالمعنى المعنوي لها ظلال مهمة، الرجولة أن يكون للمرء شجاعة قلب وثبات موقف، وجرأة حق، وإقدام بطولة إذا جد الجد، وإذا اقتضى الحال
إذا القوم قالوا من فتى خلت == أني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
كان يكتم إيمانه، لكن لما تجلى الصراع بين فرعون الطاغي الباغي، وبين موسى النبي الداعي؛ تحركت غيرة الإيمان، وتحركت شجاعة وحمية الإيمان لتقول كلمتها، ولتقف موقفها.
وهكذا يجب على كل مؤمن كما كان الوصف العظيم لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، كان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه قائمة صلى الله عليه وسلم، هذا الذي ينبغي أن نتنبه له.
اليوم تثور حميتنا إذا اعتدي على أشخاصنا، إذا أخذت أموالنا، إذا أصيبت مصالحنا، أما إذا كان العداء على ديننا، وإذا كان الإجرام في حق أمتنا فهل تثور حميتنا؟ وهل تغار نفوسنا؟ وهل تهتم وتغتم قلوبنا؟ ذلك ما ينبغي أن نلمحه في هذا الموقف العظيم { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } وهاهنا سمة أخرى مهمة أشرت إليها فيما مضى، إنه اختراق وانتصار إيماني رغم ضعف الحيلة وقلة القوة، فرعون كان الأقوى مادياً، الأكثر أعواناً، الأوسع سلطاناً، الأظهر طغياناً لكنه اخترق في داخله، وهذا الاختراق لم يكن مؤمناً واحداً من آل فرعون أو من قومه أو من جلسائه على اختلاف بين المفسرين، بل كان فيما هو أعظم من ذلك، امرأة فرعون، زوجه كانت مؤمنة، وهذا واحد من آله، والقبطي الذي ذكر في القصة الأخرى، ذكر بعض أهل العلم أنه كان مؤمناً فجاء إلى موسى ليقول له: { إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ } [القصص : 20] ورابعة في عقر داره أيضاً وهي ماشطة ابنة فرعون، روى أحمد في مسنده والطبراني في معجمه في قصة الإسراء والمعراج، أن النبي صلى الله عليه وسلم في صحبته لجبريل شم رائحة طيبة فسأل عنها جبريل، فقال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها، فسأل النبي عن القصة فقال جبريل: ماشطة ابنة فرعون تمشط فيسقط منها ذلك المشط، فقالت: باسم الله، فقالت البنت: تعنين أبي، فقالت: لا، ربي ورب أبيك الله" اختراق في داخل قصر فرعون، هنا انتصار الحق بالدعوة، انتصار الإيمان بقوة الحجة، ليس بالرهبة ولا بالسلطة { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } [البقرة : 256] فقالت: "أخبر به أبي، قالت: نعم، فجاء بها فرعون العظيم الطاغي، القوي الباغي، قال: ما تقولين، قالت: ربي وربك الله، فأمر ببقرة من نحاس أن تحمى -أي أذاب فيها النحاس وجعل فيها النار، ثم أراد أن يستخدم الأولوهية الفرعونية البشرية الذليلة الضعيفة التي ليست لها حجة، وليس عندها قدرة إلا هذا البغي والطغيان والعدوان- فقالت: لي إليك حاجة، قال: ما حاجتك؟ قالت: إذا مت أن تجمعوا عظامي وعظام أبنائي فتكون سوياً، قال: لك ذلك حق علينا، فقذفوا بأبنائها واحداً تلو الآخر، وكان منهم رضيع صغير، فكأنها ترددت قليلاً فأنطقه الله وقال: يا أمة اقتحمي في النار، فلعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فاقتحمت" (1) الحديث من رواية ابن عباس وفيه ذكر الذين تكلموا في المهد.
هكذا معاشر الأخوة، ليس بالضرورة أن ننظر إلى المعركة في عنصرها المادي أن هناك من طغى أو بغى أو قتل أو سفك أو احتل، فإنه ضعيف عاجز، ولذا استخدم القوة، وما يزال إسلامنا اليوم يخترق صفوف أعداءنا، ويأخذ من أبنائهم، بل من كبرائهم وعظمائهم من يذعنون للحق، وتنشرح صدورهم للإسلام، وتمتلئ قلوبهم بحقائق الإيمان، وفي وصف بيئة الكفر، وفي مجتمع عداء للإسلام يظهر كل يوم من يشهر إيمانه وإسلامه.
ومن لطائف ما اطلعت عليه في الأسابيع الماضية أن ابنة لوزير داخلية في دولة أوربية أشهرت إسلامها، ونحن نعلم ما يلقاه المسلمون اليوم من بعض التضييق الذي في هذه البلاد من وزارات الداخلية على وجه الخصوص، فمن عقر الدار خرجت ابنة مؤمنة لتقول: "إن الحجاب الذي قد تحاربونه، والحرية التي قد تصادرونها والإسلام الذي تواجهونه قد آمنت به، وعلمت أنه الحق، وأشهره وأظهره بين أظهركم جميعاً من غير تردد ولا خوف"
وقد أشرت لكم من قبل عن الإحصاءات التي نشرت في الموسوعة المسيحية العالمية التي ذكرت أن أعداد المسلمين خلال قرن مضى زادت بنسبة 7% من إجمالي سكان العالم، وأن نسبة المسلمين ازدادت من 13% إلى 19% وشيئاً، وهل هذا بجهدنا؟ كم قصرنا وفرطنا؟ لكننا نقول: انظروا إلى وجوه النصر في هذه المعاني كما اخترق فرعون في عمق داره وبيته.
قال ابن عطية عن هذا المؤمن –مؤمن آل فرعون-: "شرفه الله بالذكر وخلد ثناءه في الأمم" وها نحن اليوم نتحدث عنه، كم بيننا وبينه من الأعصر والزمان؟ لكنني أسألكم وأسأل نفسي، وجميعكم يمر بخاطركم هذا؟ ما اسم هذا الرجل؟ لما وقد خلد ذكره لم يكتب اسمه في كتاب الله؟ لننتبه إلى أمرين اثنين مهمين:
الأمر الأول: العبرة بالجوهر، باللب، لا بالمظهر والشكل، لا يهمنا إن كان سعيد بن سعد أو سعد بن محمد أو غير ذلك.
والدرس الثاني الأعظم والأكثر أهمية: أن نتربى على الإخلاص لله، والتجرد عن حظوظ النفس وظهورها واشتهارها إلى مصلحة الدين والأمة، ونحن اليوم إذا كتبتنا سطراً أردنا أن يقال: إننا خدمنا الدين، وإننا فعلنا وفعلنا، وهذا رجل تتلى قصته إلى يوم القيامة، ما ذكر له اسم، ويعجبني مقالة للفاروق عمر، عندما بلغه من سعد برسالة جاء بها رسول "إن الله قد نصر أهل الإسلام" أبشرك بنصر الله لأهل الإسلام أي في معركة القادسية، وفي رسالته: ""ذهب فلان وفلان من الناس ممن لا تعلمهم والله بهم عالم كانوا يدوون بالليل بالقرآن كدوي النحل"
وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه بزمام في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في السقاة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع) (2) لا يهمه مكانه، لا يهمه اسمه، لا يهمه شرفه وعظمته يهمه دينه وأمته ورسالته، يوم نتجرد لهذا المقصد سيكون حالنا على غير حالنا، الذي نلفت فيه الأنظار ونستجلب فيه الأضواء ليقال فلان فعل، وفلان فعل، وما فعل شيئاً، وأي شيء فعله أي أحد منا بجانب ما فعله الرسل والأنبياء، والدعاة الصالحون من أتباعهم الذين باعوا أرواحهم وقدموها فداء دينهم، وجعلوا نحورهم وصدورهم دروعاً لرسلهم وأنبياءهم، كما فعل الأصحاب رضوان الله عليهم مع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
صور كثيرة يمكن أن ننتبه لها { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } [غافر : 28] وهنا أيضاً مسألة مهمة في المقابلة، هو مؤمن وهو من آل فرعون، وآل فرعون كان يمثلهم فرعون كفراً وطغياناً، فهل كان مع آله؟ أو كان مع إيمانه؟ ها هي القضية واضحة متجددة في كل زمان ومكان، إنما ينحاز المؤمن في موقفه ومنهجه وحبه وولائه بدينه ومعتقده قبل كل شيء، ويكون مقدماً على كل شيء لا لميل وتقديم وتفضيل لآل ولا لنسب ولا لسبب إلا ما يكون من دين الله، ذلك الذي ميز الجيل الأول بل الذي يميز كل جيل يرتبط بالعقيدة والإيمان، يوم افترق أصحاب النسب الواحد فكان أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم ملعوناً في القرآن مخلداً في النار، وكان سلمان الفارسي البعيد من آل البيت على ما قيل في الحديث من صحة وضعف، صور كثيرة ينبغي أن نتبه لها.
هل قلوبنا ونفوسنا وأرواحنا ومواقفنا وبذلنا وجهدنا وصلتنا وقطيعتنا مرتبطة بديننا وعقيدتنا وإسلامنا وإيماننا وأمتنا ودعوتنا؟ أم أننا ننحاز إلى ذواتنا وإلى أسرنا وإلى أنسابنا وإلى ديارنا حتى صارت بيننا مناطقية وعصبية وطنية وغير ذلك، وأصبحنا لا نمثل الصورة التي أرادها لنا ديننا والتي صورها لنا رسولنا بأننا أمة واحدة لا يخطئ النظر فيها كل الفروق من هذه الأجناس أو الأعراق أو اللغات؛ لأن فيها جامع أعظم، وهو إيمانها الموحد، وإسلامها المجمع، وولاءها الذي يربط بينها، وهذه قضية مهمة تظهر هنا.
{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } وكتمان الإيمان ليس عيبا إذا كان لمصلحة، ومن هنا أظهره عندما كان الإظهار هو اللازم والواجب { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } وهنا مواقف شتى:
كلمة { رَبِّيَ اللَّهُ } إنها ليست كلمة لسان، إنها منهج حياة، إنها خفقة قلب ومشاعر نفس، وخواطر عقل، وكلمات لسان، وأحوال إنسان يتغير كلية بهذا الإيمان، ولذا كانت هذه الكلمة هي الفارق العظيم الذي فرق بين أهل الإيمان وأهل الكفران.
ولذا بين الله سبحانه وتعالى ذلك أيضاً عندما قال في شأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } [الحج : 40] وهكذا ينبغي أن نقولها بقلوبنا بأحوالنا بكل حياتنا { ربنا الله } لا نخشى إلا إياه، ولا نرجو إلا إياه، ولا نتوكل إلا عليه، ولا نثق إلا به، ولا ننيب إلا إليه، ولا يكون لنا ضر ولا نفع إلا منه سبحانه وتعالى يقين جازم تنصبغ به الحياة كلها، وحينئذ نستطيع أن نكون متحققين يوم ننطق بقولنا { ربنا الله } وهكذا كان مؤمن آل فرعون، عندما يقول لهم: إن موسى عليه الصلاة والسلام إنما جاء بهذه الحقيقة الكبرى {ربنا الله} ليس ربكم فرعون هذا البشر الضعيف الهزيل الذي جعل الله عز وجل منه عبرة للمعتبرين، يوم أغرقه الله عز وجل فقال في اللحظات الأخيرة { آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [يونس : 90] لكنه لم ينفعه إيمانه إذ لم يكن في الوقت الذي كان فيه متاحاً ومبسوطاً له أن يرى هذه الدلائل وأن يؤمن بها.
{ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، عادته قريش وعادته قبائل العرب لماذا؟ لأنه قال: {ربي الله} ومنذ اليوم الأول عندما جاء إلى خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها يخبرها بقصة الوحي، وذهبت به إلى ورقة بن نوفل فقالها قولة عالم بالكتب السابقة وقصص الأنبياء، قالها: "ليتني أكون فيها جذعاً عندما يخرجك قومك" -فتعجب النبي ولم يكن له علم بالحال والمآل إذ ذاك- (أو مخرجي هم) -فقالها كلمة ماضية لسنة حاضرة- "ما أتى رجل قومه بمثل ما أتيت به إلا أخرجوه وعادوه" (3) هكذا كان المبدأ أن الكفر هو الذي يعادي، وهو الذي يفجر، وهو الذي يخاصم.
ثم تركهم ومضى إلى المدينة فهل تركوه؟ لحقوه، هذه طبيعة الكفر لأنه يرى أن في الإيمان بطلانه، وأن في الإيمان خسرانه، وأن في الإيمان ووجوده نهايته المحتومة، فلذا يسعى إلى محاربة الإيمان وأهله كما بين الحق سبحانه وتعالى كثيراً في هذا المجال.
وهنا أنتقل بكم إلى صورة مهمة أرى أنها تؤكد لنا أن قضية القرآن وقصصه وآياته وطيدة الصلة بنا، ليست تاريخاً يروى، ولا قصة تسرد أحداثها بل واقع يجب أن نعيشه؟
انظروا إلى هذه الومضات أذكرها من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم لنرى حضور هذه القصص في الحياة اليومية في الكلمات على الألسن في المواقف الواقعية.
روى البخاري وغيره من حديث عروة بن الزبير أنه سأل عبد الله بن عمرو بن العاص: "ما أشد ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين، فقال عبد الله رضي الله عنه: رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع رداءه في عنقه، فخنقه به خنقاً شديداً" (4) وفي رواية أخرى عند غير البخاري، "أنهم غمزوا النبي وهو يطوف فقال لهم قولة حق أرهبتهم: (والله يا معشر قريش لقد جئتكم بالذبح) فخافوه وخنسوا ثم أحسنوا له القول، فلما كان اليوم الذي يليه قالوا: كيف فعلتم ذلك؟ فعندما أقبل النبي صلى الله عليه وسلم ابتدروا إليه، هذا يخنقه وهذا يلببه بردائه، وهنا الموقف فجاء أبوبكر رضي الله عنه حتى دفعه عنهم فقال: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ َقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ }" (5) لقد تمثل أبوبكر موقف مؤمن آل فرعون، وقال مقالته، ودافع عن نبيه، وفي راواية أحمد في مسنده عن هذا الحديث فقام أبو بكر يقول وهو يبكي: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} لقد كان هذا الحديث مصوراً أن تلك القصة البعيدة في أعماق التاريخ تتجدد في مواقف المؤمنين، لأنهم يعرفون أنهم معنيون بها، وأن الإيمان واحد، وأن الرسالة والنبوة واحدة، وأن الطغيان والعدوان واحد، ومنه لا بد أن يكون لهذا القرآن ولقصصه أثره المباشر في حياة الواقعية العملية.
وأنقلكم إلى صفحة أخرى في هذه القصة، تؤيد هذه العبرة وتزيدنا عبرة أخرى مهمة، ذكر ابن كثير في تاريخ البداية والنهاية هذه القصة، قال: "خطب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه الناس، فقال لهم: من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه، ولكن أشجع الناس أبو بكر رضي الله عنه، قال: لما كان يوم بدر ابتنينا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً، فقال الناس: من يحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فما دنا أحد إلا أبو بكر رضي الله عنه" ثم قال هذه القصة وذكر اجتماع الكافرين كما في رواية البداية والنهاية قال علي رضي الله عنه: "فهذا يلببه وهذا يتلتله -أي الكافرين والمشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم- فما دنا منه أحد إلا أبو بكر، يدفع هذا عنه ويذود هذا عنه، ويقول: {أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله} قال علي: ثم رد عليّ بردة كانت عليه، فبكى حتى ابتلت لحيته، ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر، فسكت القوم، فقال علي رضي الله عنه: فو الله لساعة من أبي بكر خير من ملئ الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه"
هكذا صورها علي بن أبي طالب، فتباً لمن يشتم أبا بكر وغيره من الأصحاب، وهذا علي العظيم الجليل ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يصور العظمة والمحبة هذا التصوير الذي ينقلنا كما قلنا إلى الأثر الممتد، لقد وقف أبو بكر موقفه الذي كان متأسياً أو ممثلاً أو مشبهاً أو مذكراً بموقف مؤمن آل فرعون، فهل انتهى الأمر؟ كلا، لقد كان موقف أبو بكر موقف عبرة يجتره ويتذكره المسلمون، حتى ذكره علي في ملأ من الناس، وقارن هذه المقارنة: "أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر ثم يقول: والله لساعة من أبي بكر خير من ملئ الأرض من مؤمن آل فرعون" فأين مؤمن آل فرعون اليوم؟ وأين الذين يحظون ويذكرون ويشيدون؟ هذه قضية تلامسنا، إنها ليست آيات تتلى ولا قصة تروى، إنها توجيه موجه وإرشاد ينبه عليه حتى نغير أحوالنا، ويكون لنا هذا الانبعاث الإيماني الذي نقول به الحق بالحكمة الهادية، وبالدعوة الراشدة حتى نبين للناس ونستنقذهم من النار، فلئن كان الأمر ذوداً عن فرعون، ولئن موقف أبي بكر ذوداً عن النبي صلى الله عليه وسلم فليس عندنا اليوم أنبياء لكنه ذوداً عنهم وعن ديانتهم وعن رسالتهم، ودينهم واحد وعقيدتهم واحدة، فهكذا ينبغي أن يكون الأمر.
هذه صور شتى تقول لنا: إن هذه القصة قصة مؤمن هو أنت وأنا وهذا وذاك، قصة مؤمن نريد أن نعلمها لأبنائنا وصغارنا، وأن نحفظها مع تحفيظ الآيات في القلوب والأرواح لتتجدد هذه المعاني، ولعلنا إذا مضينا وجدنا الكثير والكثير.
التفت بعد هذا إلى الخطاب العقلي الذي أشرنا إليه من قبل إشارة سريعة { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ } [غافر : 28] ثم بين { وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } فكروا بعقولكم، وقد قال لهم من قبل ما هو عاطفي عندما جعل نفسه منهم، وعندما دعاهم إلى تفكير مشوب بالعاطفة { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } أين قلوبكم؟ أين عاطفتكم؟ أين عقولكم وفكركم؟ ثم يقرر الحقيقة { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } قالوا: إن كان القول منه –أي من المؤمن- فإنه يشير لهم: انظروا إلى العاقبة، وكونوا مع الحق، فإنه لا يمكن أن يصل إلى غاية محمودة من كان مسرفاً متجاوزاً للحد كاذباً على الله عز وجل يعني بذلك الدفاع عن موسى من غير أن يكون صريحاً وإنما منطقياً منهجياً، أو يكون المقصود به فرعون، فإنه لم يهدى وهو مسرف تجاوز الحد في البغي والعدوان وكذب على الله فادعى الألوهية والربوبية عياذاً بالله، ويكون الكلام تقريراً من الله عز وجل.
والأمر هنا حكمة في الدعوة وبصر في العرض، كما ينبغي أن يكون عليه المرء، فإنه وإن كان في حضرة فرعون، لم يسب فرعون، ولم يشتمه, ولم يوجه حديثه إليه ابتداء، بل وجهه للناس، لا نريد أن يكون حديثنا متوجه باتجاه واحد، فإن الأمانة والرسالة للخلق كلهم، وإن الدعوة لصغيرهم وكبيرهم، وقد كان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم تخلو به المرأة العجوز في أي ناحية من المدينة شاءت، فتخبره بأمرها، فيقضي لها حاجتها، وهو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، والله أسأل أن يجدد فينا قصة مؤمن آل فرعون، وأن يجعلنا من أهل الإيمان والغيرة والحمية والدعوة والهداية والإرشاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
وللحديث بقية اخواني