مليون ونصف المليون فلسطيني يواجهون الموت جوعًا بفعل الحصارين الصهيوني والعربي، ولا أحد يتحرك أو يريد أن يتحرك، وكأن هؤلاء ليسوا عربًا ومسلمين، بل ليسوا بشرًا على الإطلاق.
جون جينغ ممثل وكالة غوث اللاجئين في القطاع المحاصر يصرخ مناشدًا الضمائر الميتة عبر قناة (الجزيرة) ويقول إن هناك 750 ألف طفل فلسطيني على حافة الموت لا يجدون الطعام ولا الدواء ولا حتى الحليب، ومع ذلك يدير العرب وجوههم إلى الناحية الأخرى، لا يريدون أن يسمعوا، وبالتالي أن يتحركوا، حتى لا تغضب منهم الحكومة الصهيونية حليفتهم الجديدة.
السيدة كارين أبو زيد المسئولة عن منظمة الأونروا تؤكد أن أمراضَ فقر الدم وسوء التغذية متفشية في أوساط الأطفال في قطاع غزة، وأن بعضهم أصبح يعاني من تشوُّهات خلقية، وقصر قامة أقل بكثير من المعدلات الطبيعية للنمو، ومع ذلك نرى تعتيمًا إعلاميًّا عربيًّا متعمَّدًا على هذه المأساة.
السيدة أبو زيد والسيد جينغ هما من الأجانب، فالأولى غير محجبة أو منتقبة، والثاني حليق اللحية والشارب؛ أي أنهما ليسا عضوين في حركة حماس حتى يتم اتهامهما بالانحياز أو المبالغة، فهما يعكسان الواقع المخجل على الأرض، ويطرقان أبواب العالمين العربي والإسلامي، ومن بعدهما المجتمع الدولي، على أمل أن تتحرك الضمائر وتهرع لإنقاذ الأبرياء.
العرب وللأسف الشديد منخرطون هذه الأيام في حوار الأديان، ويريدون نيل الرضى الصهيوني بكل الأشكال، والسلطة الفلسطينية في رام الله تتوسَّل بالسلام إلى إيهود أولمرت وتسيبي ليفني، وتنشر إعلانات مدفوعة الثمن في الصحف الصهيونية لشرح مبادرة السلام العربية، لا شرح الأوضاع المأساوية في قطاع غزة، فيبدو أن القطاع وأبناءه باتوا خارج دائرة همومهم ومسئولياتهم، ويتعاملون معهم كأنهم من كوكب آخر، ليست لهم علاقة بفلسطين أو العرب أو المسلمين، فليموتوا جوعًا وقهرًا وبردًا ومرضًا.
كان أمرًا مؤسفًا أن يذهب الرئيس محمود عباس- الذي يقول إنه رئيس لكل الفلسطينيين وليس لمربع سلطة رام الله- إلى القدس المحتلة للقاء إيهود أولمرت رئيس الوزراء الصهيوني، ويتبادل معه القبلات والابتسامات، وأبناء القطاع يتضوَّرون جوعًا، والكهرباء عنهم مقطوعة.
ليته استمع إلى تلك السيدة التي صرخت بحسرة أمام عدسات التلفزة، ملخِّصةً الوضع المخجل بكلمات بسيطة معبرة: لا ماء.. لا كهرباء.. لا خبز.. لا شموع.. لا شيء على الإطلاق.. ماذا تريدوننا أن نفعل؟ ولم كل هذا الظلم؟ ماذا فعلنا حتى نستحقه؟!
نعم أهل القطاع فعلوا.. فعلوا ما عجزت عنه الأمة العربية بأسرها.. فعلوا ما لم يفعله مليار ونصف المليار مسلم؛ ينتشرون في قارات العالم الخمس.. قاوموا الاحتلال، ورفضوا الذل والاهانات، وتصدّوا للفجور الصهيوني بأجسادهم الطرية، وعزيمتهم الأقوى، وصمدوا في وجه كل أنواع الابتزاز والاستفزاز برجولة الصحابة والمؤمنين الأوائل.
أعرف جيدًا معنى أن تفرغ مخازن وكالة غوث اللاجئين من الفول والعدس والأرز والسكر والدقيق، فهذا يعني الجوع لمئات الآلاف من الأسر التي تحمل بطاقة التموين الصادرة عن الأونروا؛ فقد كنت أحد الذين عاشوا على هذه الإعانات حتى السابعة عشرة من عمري، فقد كنا ننتظر يوم توزيع الإعانات هذه على أحرِّ من الجمر؛ لأنها ضمانة لإسكات جوع المعدة لعدة أيام قادمة.
أتعاطف كثيرًا مع ذلك المواطن الفلسطيني البسيط، العاطل عن العمل الذي يعيل أسرة من 13 طفلاً، بينهم اثنان من ذوي الاحتياجات الخاصة (معاقان) ولا يجد رغيف خبز لإطعام أطفاله، بينما صناديق السيادة العربية المستثمرة في أوروبا وأمريكا تطفح بآلاف المليارات من الدولارات.
لن يتحرك السيد عمرو موسى الذي يتطلع إلى ضمِّ الكيان الصهيوني إلى جامعته بعد قبولها مبادرة السلام العربية، ولن يتحرك الرئيس المصري حسني مبارك الذي يشارك الصهاينة في إحكام الحصار على قطاع غزة؛ بإغلاق معبر رفح وتفجير أنفاق الكرامة التي تقوم بإيصال بعض الغذاء والدواء ولعب الأطفال للمحاصرين في القطاع، ولن يتحرك أيضًا خادم الحرمين الشريفين وحكومته لكي يصرخ في وجه الرئيس جورج بوش، مطالبًا بوقف هذه المأساة فورًا وإلا فعليه تحمُّل العواقب، وما أكثر الأوراق الحاسمة في يده، وأبرزها ورقة النفط وأسعاره وإنتاجه.
الكيان يتمادى في جرائمه، والغرب يصمت ولا يتحرك لأن العرب لا يتحركون؛ لأن العرب الرسميين- ولا أقول الشعوب الشريفة الكريمة المسحوقة- متواطئون لإبقاء الحصار وتشديده، على أمل أن تسقط سلطة حماس التي يكرهونها جميعًا، فلا بأس من تجويع وقتل مليون ونصف المليون فلسطيني بسبب هذه الـ"حماس"!.
توقَّعت أن يتحرك هذا الغرب "الحضاري" وهو يرى صور "الصيصان" في مزارع الدواجن تُعدم؛ لأن أصحابها لا يجدون العلف لها، ولا الوقود اللازم لتدفئتها، قلت ربما أن هذا العالم الذي يتحرك بأسره لنصرة كلب أعرج، أو قطة مريضة، أو بطة ملوثة بالنفط على شواطئ الكويت، سيتحرك عندما يرى هذه الكتاكيت الصغيرة توضع في أكياس بلاستيكية تمهيدًا لحرقها، ولكنه غرب منافق، تتراجع كل قيم ومبادئ حقوق الإنسان التي يتغنَّى بها عندما يكون الكيان الصهيوني هو الجلاَّد والعرب هم الضحايا.
الشعب الفلسطيني سيصمد في مواجهة هذا "الهولوكوست" العربي الصهيوني، وسيتجاوز محنة الحصار هذه، مثلما تجاوز محنًا عديدة قبلها، وربما أخطر منها؛ لأنه شعب تعلَّم أن يمشي مرفوع الرأس، متحليًا بالإيمان والصبر، ومتحديًا جلاَّديه.
لا نملك إلا أن نكتب محاولين لفت الأنظار إلى هذا الظلم التاريخي؛ لعل بعض الدماء تتحرك في عروق عربية وعالمية تيبّست، وباتت عصيةً على الحركة والانتصار للضعفاء.
السيد جون جينغ ممثل الأونروا في قطاع غزة قال في ختام ندائه الذي أصدره من قلب القطاع المحاصر: إن ما يحصل هناك هو عارٌ على البشرية.. عارٌ على المجتمع الدولي، ونضيف بأنه أيضًا عارٌ على كل الحكام العرب، دون استثناء أيٍّ منهم.