سيرة رجل جمع بين ثقافة المشرق والمغرب
الفضيل الورثيلاني.. العالم الثائر والشهيد المظلوم
الفضيل الورثيلاني، واسمه الحقيقي إبراهيم بن مصطفى حسنين، من أكثر الشخصيات اثارة للجدل، زمنيا عاش الفضيل عددا قليلا من السنين لم يبلغ الستين، لكنه أحدث ضجة وجدلا كبيرا في العالم والتاريخ، أول الجدل هو تاريخ الميلاد، حيث تذكر المصادر ثلاثة تواريخ مختلفة، أولها وهو المعتمد رسميا في الجزائر أنه ولد في 1900....
وتتحدث الترجمات التي كتبت عنه في مصر ولدى الإخوان المسلمين أنه ولد في 1906، في حين تقول شهادة وفاته أن الشيخ الفضيل ولد سنة 1908، هذه التواريخ الثلاثة تجمع على ان الشيخ الفضيل لم يعمر سوى 59 عاما على اكثر تقدير، واذا أقصيت منها سنوات الصبا وطلب العلم بقيت سنوات قليلة لا يمكن لغير عبقري فذ أن ينجز فيها ما أنجز خلالها الفضيل الورثيلاني الذي حمل هم العالم الإسلامي فساهم في التربية بفرنسا وفي التعليم بمصر والإصلاح باليمن والثورة الجزائرية وساهم في صياغة دستور باكستان، وإحداث خلل في مواقف الحلف الأطلسي من الجزائر.
ولد الفضيل حسنين الورثيلاني في قرية آنو، ببلدة بني ورثلان -ولاية سطيف-، وينتمي إلى أسرة عريقة، فجده الشيخ الحسين الورثيلاني معروف بعلمه وتعليمه وكتاباته، ومنها: "شوارق الأنوار في تحرير معاني الأذكار" و"الكواكب العرفانية والشوارق الأنسية في شرح الألفاظ القدسية". حفظ الفضيل القرآن الكريم ودرس علوم اللغة والدين على علماء بلدته، ثم سافر إلى قسنطينة ليأخذ العلم مباشرة من رائد الحركة الإصلاحية في الجزائر الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي سمع عنه وتأثر به كثيراًً. وسرعان ما فرض نفسه ونال إعجاب أستاذه وزملائه في الدراسة، فيقول عنه صديقه علي مرحوم: "لاحظت منذ أول لحظة عرفته فيها، أنه يتحلى بروح قوية، ويمتاز بحيوية دافقة، ونشاط ذاتي، وحماس متزايد. وكان يسعى دوما لربط صلاته بطلاب الشيخ "ابن باديس" الواردين من مختلف مناطق الجزائر.. ويتمثل لنا يومئذ كأنه الأخ الأكبر لأولئك الطلاب. يريد أن يخرجهم من حالة الخمول التي جاءوا بها.. وأن يبعث فيهم الحيوية والنشاط والثقة بالنفس، قبل أن يتاح لهم ذلك عن طريق دروس شيخهم.
ولما لم يكن الشيخ عبد الحميد بن باديس مجرد ناقل للعلم، بل كان مصلحا ذا مشروع، كان يتفرس في تلاميذه ويتخير للمهام رجالها، وكان مما يضايق الشيخ ابن باديس ويؤرق ليله وضع المهاجرين وابناؤهم في فرنسا، لقد خشي عليهم التأثر بالثقافة الفرنسية وأن يتحولوا الى وقود لدعايتها فانتدب لإنقاذهم تلميذه وصفيه الفضيل، فنزل الورثيلاني باريس سنة 1936 فأبان عن عبقرية فذة وحركية ناجعة تمكن من ربط الإتصال بعدد من المصلحين الذين كانوا يدرسون بها مثل العلامة "محمد عبد الله دراز"، والشيخ "عبد الرحمن تاج" الذي صار شيخًا للأزهر، والعلامة السوري "محمد عبد القادر المبارك"، والشاعر "عمر بهاء الدين الأميري". وبالتوازي مع ذلك، ربط بين المغتربين الجزائريين الموجودين في باريس وأسس نوادي علمية، حتى قال عنه الشيخ علي مرحوم ان باريس اثناء تواجد الشيخ الفضيل فيها كانت كأنها عاصمة مشرقية، وقد أقلق هذا النشاط السلطات الفرنسية فضيقت على الشيخ الفضيل حركته، وجاءته رسائل تهدده بالقتل، فاضطر إلى مغادرة فرنسا إلى إيطاليا ومنها إلى القاهرة.
وصل العلامة الورثيلاني القاهرة سنة 1939، وكان أنذاك حسن البنا رجلا صانعا للحدث في مصر، فالتقى الرجلان، وكان البنا يقدِّر جهود الشيخ ابن باديس، ومتأثرا بعمل جمعية العلماء، وبلغ من تأثره أنه حين أسس مجلة فكرية أطلق عليها "الشهاب" تيمُّنًا بمجلة "الشهاب" - التي أصدرها الشيخ ابن باديس-، وسرعان ما توثقت الصلة بينهما، ويقول الإخوان المسلمون أن هذه العلاقة توجت بانضمام الفضيل الورثيلاني إلى الجماعة، وصار عضوًا بارزًا بها؛ نظرًا لملكاته الخطابية وقدرته على الإقناع، وكان من دلائل تفوقه أنه كان ينوب عن البنا حين يكون غائبًا عن القاهرة في إلقاء حديث الثلاثاء بالمركز العام لجماعة الإخوان، ومن أبرز الذين درسوا عنه هناك العلامة يوسف القرضاوي.
ولم ينس الشيخ الفضيل الهم الأول التي خرج من أجله، فقام بجهود جبارة للتعريف بالقضية الجزائرية، وفي سبيل ذلك شارك في تأسيس عدة جمعيات خيرية وسياسية، مثل: اللجنة العليا للدفاع عن الجزائر، وجمعية الجالية الجزائرية سنة 1942، وجبهة الدفاع عن شمال إفريقيا سنة 1944، وكان هو أمينها العام، وضمَّت في عضويتها الشيخ "محمد الخضر حسين"، والأمير "عبد الكريم الخطابي المغربي".
..في اليمن
قام الفضيل الورثيلاني بدور بارز في تنظيم وتنظير ثورة الأحرار في اليمن التي قامت في 1948 ضد الإمام يحيى حميد الدين، وقد أشار بعض من الباحثين إلى هذا الدور مثل مصطفى الشكعة في "مغامرات مصري في مجاهل اليمن" وحميد شمرة في "مصرع الابتسامة"، وأحمد الشامي في كتابه "رياح التغيير في اليمن". يقول أحمد الشامي أحد المشاركين في هذه الثورة: "إن العالم المجاهد الجزائري السيد الفضيل الورثيلاني هو الذي غير مجرى تاريخ اليمن في القرن العشرين، وأنه حين وضع قدمه على أرض اليمن كأنما وضعها على "زر" دولاب تاريخها، فدار بها دورة جديدة في اتجاه جديد، لأن ثورة الدستور سنة 1948م هي من صنع الورثيلاني".
سافر الفضيل الورثيلاني للمرة الأولى إلى اليمن في بداية عام 1947، وفي جولاته هناك، التقى العلماء والوجهاء والشباب وألقى خطباً في المساجد والأماكن العامة وتمكن من إقناع اليمنيين بوحدة الصف وضرورة التغيير والخروج من الجهل والتخلف، وبعد شهرين رجع إلى مصر، حيث توجد النخبة والمعارضة اليمنية لتحضير دستور جديد أو ما سمي بالميثاق المقدس. وعاد مرة ثانية لعرض الميثاق على العلماء والسياسيين لسبر آرائهم والاستماع لاقتراحاتهم. وقد تم الوصول إلى الصيغة النهائية للميثاق المقدس في نوفمبر 1947، وكان الاتفاق بين كل هذه الأطراف ينص على تغيير الأوضاع السياسية في اليمن بطريقة سلمية وتنصيب عبد الله الوزير حاكماً دستورياً على البلاد خلفاً للإمام يحيى حميد الدين.
عارض الإمام أحمد يحيى حميد الدين الحكومة الدستورية في صنعاء، واتهمها باغتيال والده وإهانة إخوته. وجمع القبائل الموالية له وحاربها. وسقط النظام الدستوري في 13 مارس 1948م وتولى الإمام أحمد عرش اليمن.
بعد فشل ثورة الدستور حكم بالإعدام على الورثيلاني الذي اتهم بالمشاركة في قتل الإمام يحيى والمساهمة في الانقلاب. فأصبح مطلوباً للإعدام فقضى خمس سنوات متشرداً في العالم ومتستراً، وكان عليه أن يغير ملامح وجهه وطريقة لباسه في كل مرة حتى لا يكشف أمره والدليل على ذلك الصور التي تظهره في زي عالم أزهري وهيئة شيخ قبيلة خليجية وشكل ممثل أمريكي.. زار سراً خلال هذه الفترة جل دول أوروبا الغربية، والتقى رئيس جمعية العلماء الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ونائبه الشيخ محمد العربي التبسي في سويسرا. وفي الأخير قبل رئيس وزراء لبنان رياض الصلح استقرار الفضيل الورثيلاني في بيروت شرط أن يكون ذلك سراً.
ورغم اهتمام الشيخ الفضيل بما يحدث في العالم الإسلامي بصفة عامة، إلا ان الجزائر كانت همه الأساسي، فقد سافر الفضيل الورثيلاني كثيراً في سبيل شرح القضية الجزائرية فزار معظم الدول الإسلامية، والتقى كثيراً من زعماء المسلمين مثل عبد الرحمن عزام أمين عام الجامعة العربية، الشيخ محمد الخضر حسين، الشيخ محمد عبد الله دراز، الشيخ مصطفى عبد الرازق، الأمير عبد الكريم الخطابي، المفتي محمد أمين الحسيني، وأحمد سوكارنو رئيس إندونيسيا الذي استقبله رسمياً في قصر الرئاسة في جاكارتا، وفي كل بلد نزل فيه خطب وحاضر في المشكلة الجزائرية مدافعاً عن الشخصية الجزائرية ومطالباً بحق الشعب الجزائري في تسيير شؤون بلاده بنفسه.
في 1 نوفمبر 1954م، مع انطلاق الثورة التحريرية، رحب الفضيل الورثيلاني بهذه الإنطلاقة التي لطالما انتظرها وسعى لقيامها. ونشر مقالاً في 3 نوفمبر، أي بعد ثلاثة أيام فقط من اندلاع الثورة التحريرية تحت عنوان: "إلى الثائرين من أبناء الجزائر: اليوم حياة أو موت"، وفي 15 نوفمبر من العام نفسه أصدر مع الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بيانا: "نعيذكم بالله أن تتراجعوا". وفي 17 فيفري 1955 شارك في تأسيس جبهة تحرير الجزائر والتي تضم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، وممثلي جبهة التحرير الوطني: أحمد بن بلة، وحسين آيت أحمد، ومحمد خيضر وبعض ممثلي الأحزاب السياسية الجزائرية كالشاذلي مكي، حسين لحول، عبد الرحمن كيوان وأحمد بيوض. وكان الهدف الأساسي لهذه الجبهة مناصرة ومساندة الثورة الجزائرية. أصبح ممثلاً لجبهة التحرير الوطني في تركيا في 1956 بعد أن انضمت جمعية العلماء رسمياً إلى الثورة وجبهة التحرير الوطني في أفريل 1956م.
وفاته
لم يتحمل جسد الشيخ الفضيل كل هذه الهمة التي كان يحملها فغزته الأمراض، ثم توفي الشيخ الفضيل الورثيلاني في مستشفى أنقرة في 12 مارس 1959م ودفن في العاصمة التركية. وفي 1978 نقل جثمانه إلى الجزائر بمسقط رأسه.
قامت جمعية العلماء الجزائريين بجمع مقالات الفضيل الورثيلاني في كتاب ضخم ونشرته في بيروت في عام 1963 تحت عنوان "الجزائر الثائرة". واحتوى الكتاب أيضاً على شهادات العلماء والسياسيين العرب في الإشادة بذكره والتنويه بجهاده.