المولد والنشأة:ولد "محمد البشير
الإبراهيمي" في قرية (أولاد إبراهيم) قرب "سطيف" غربي مدينة قسطنطينة
الجزائرية في (13من شوال 1306هـ= 14 من يوليو 1889م)، ونشأ في بيت كريم من
أعرق بيوتات الجزائر؛ حيث يعود بأصوله إلىالأدارسة العلويين من أمراء
المغرب في أزهى عصوره.. حفظ "البشير" القرآن الكريم، ودرس علوم العربية على
يد عمه الشيخ "محمد المكي الإبراهيمي"، وكان عالم الجزائر لوقته، انتهت
إليه علوم النحو والصرف والفقه في الجزائر، وصار مرجع الناس وطلاب العلم،
وقد عني بابن أخيه عنايةً فائقةً، وفتح له أبوابًا كثيرةً في العلم، حتى
إنه ليحفظ قدرًا كبيرًا من متون اللغة، وعددًا من دواوين فحول الشعراء،
ويقف على علوم البلاغة والفقه والأصول، لما مات عمه تصدَّر هو لتدريس ما
تلقاه عليه لزملائه في الدراسة، وكان عمره أربعة عشر عامًا.
الرحلة
إلى المدينة المنورة:ولما بلغ "البشير" العشرين من عمره
ولَّى وجهه نحو المدينة المنورة سنة (1330هـ= 1912م)؛ ليلحق بأبيه الذي
سبقه بالهجرة إليها منذ أربع سنوات فرارًا من الاحتلال الفرنسي، ونزل في
طريقه إلى القاهرة، ومكث بها ثلاثة أشهر، حضر فيها دروس بعض علماء الأزهر
الكبار، من أمثال "سليم البشرى"، و"محمد نجيب المطيعي"، ويوسف الدجوي، وزار
دار الدعوة والإرشاد التي أسسها الشيخ "رشيد رضا"، والتقي بالشاعرين
الكبيرين "أحمد شوقي" و"حافظ إبراهيم".
وفي المدينة المنورة استكمل
"البشير" العلم في حلقات الحرم النبوي، واتصل بعالمين كبيرين كان لهما أعظم
الأثر في توجيهه وإرشاده، أما الأول فهو الشيخ "عبدالعزيز" الوزير
التونسي، وأخذ عنه (موطأ مالك)، ولزم دروسه في الفقه المالكي، وأما الثاني
فهو الشيخ "حسين أحمد الفيض آبادي الهندي"، وأخذ عنه شرح صحيح مسلم،
واستثمر "البشير" وقته هناك، فطاف بمكتبات المدينة الشهيرة، مثل: مكتبة شيخ
الإسلام عارف حكمت، والسلطان محمود، ومكتبة آل المدني، ووجد في محفوظاتها
الكثيرة ما أشبع نهمه العلمي.
وفي أثناء إقامته بالمدينة التقى
بالشيخ "عبد الحميد بن باديس"، الذي كان قد قدم لأداء فريضة الحج، وقد ربطت
بينهما المودة ووحدة الهدف برباط وثيق، وأخذا يتطلعان لوضع خطة تبعث
الحياة في الأمة الإسلامية بالجزائر، وانضم إليهما "الطيب العقبي"؛ وهو
عالم جزائري سبقهما في الهجرة إلى المدينة، والتقى الثلاثة في أيام متصلة
ومناقشات جادة حول وضع الجزائر وسبل النهوض بها، فوضعوا الأسس الأولى
لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
العودة إلى الوطن:عاد
"البشير الإبراهيمي" إلى الجزائر سنة (1338هـ= 1920م)، والتقى بصديقه "ابن
باديس"، فرأى جهوده التعليمية قد أثمرت شبابًا ناهضًا، وأدرك أن ما قام به
زميله هو حجر الأساس في إرساء نهضة الجزائر، فارتحل إلى (سطيف) ليصنع ما
صنع رفيقه في قسطنطينة، بدأ في إلقاء الدروس العلمية للطلبة، والدروس
الدينية للجماعات القليلة، وتحرك بين القرى والمدن خطيبًا ومحاضرًا، فأيقظ
العقول وبعث الحياة في النفوس التي أماتها الجهل والتخلف، ورأى الشيخ أن
دروسه قد أثمرت، وأن الناس تتطلع إلى المزيد، فشجعه ذلك على إنشاء مدرسة
يتدرب فيها الشباب على الخطابة والكتابة في الصحف، وقيادة الجماهير في
الوقت الذي كان يتظاهر فيه المصلح اليقظ بالاشتغال بالتجارة؛ هربًا من
ملاحقة الشرطة له ولزواره، وكان المحتل الفرنسي قد انتبه إلى خطورة ما يقوم
به "البشير" ضد وجوده الغاصب، فعمل على تعويق حركته، وملاحقة أتباعه.
وكان
المجاهدان "ابن باديس" و"الإبراهيمي" يتبادلان الزيارات؛ سواءً في
قسطنطينة أو (سطيف)، ويتناقشان أمر الدعوة وخطط المستقبل، وتكوين جيل يؤمن
بالعروبة والإسلام ويناهض الاستعمار عن طريق تربية إسلامية صحيحة.
وبارك
الله في جهود المصلحين الكبيرين، فحين نادى "ابن باديس" بمقاطعة الاحتفال
الذي ستقيمه فرنسا بمناسبة مرور مائة عام على الاحتلال، استجاب الشعب
الجزائري لنداء "ابن باديس" عن طريق دعاته الذين اندسوا وسط الشعب، وأثاروا
نخوته، فقاطعوا هذا الاحتفال الذي يهين الأمة الجزائرية ويعبث بمشاعرها
وذكرى شهدائها.
"البشير الإبراهيمي" وجمعية العلماء المسلمين:
أثار
الاحتفال المئوي للاحتلال الفرنسي للجزائر سنة (1348هـ= 1930) حفيظة
العلماء الجزائريين، فقام المصلحان الكبيران بإنشاء جمعية العلماء
المسلمين، وعقد المؤتمر التأسيسي لهذه الجمعية في (17 من ذي الحجة 1349هـ= 5
من مايو 1931م) تحت شعار: "الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا"،
وانتخبت الجمعية "ابن باديس" رئيسًا لها، و"البشير الإبراهيمي" وكيلاً،
وتقاسم أقطاب الحركة الإصلاحية المسئولية في المقاطعات الجزائرية الثلاث،
وتولى "الإبراهيمي" مسئولية (تلمسان) العاصمة العلمية في الغرب الجزائري،
واختص "ابن باديس" بالإشراف على مقاطعة قسطنطينة بما تضم من القرى والمدن،
واختص الشيخ "الطيب العقبي" بالإشراف على مقاطعة الجزائر.
ونشط
"الإبراهيمي" في (تلمسان)، وبث فيها روحًا جديدة، فكان يلقي عشرة دروس في
اليوم الواحد، يبتدئها بدرس الحديث بعد صلاة الصبح، ويختمها بدرس التفسير
بين المغرب والعشاء، ثم ينصرف بعد الصلاة الأخيرة إلى بعض النوادي الجامعة؛
ليلقي محاضرات في التاريخ الإسلامي، وكانت له جولات في القرى أيام العطل
الأسبوعية، وينشط العزائم ويبعث الهمم في النفوس، وقد نتج من ذلك كله بناء
أربعمائة مدرسة إسلامية، تضم مئات الآلاف من البنات والبنين، وبناء أكثر من
مائتي مسجد للصلوات والمحاضرات.
وقد أقلق هذا النشاط العارم
المستعمرين، وأدركوا عاقبة ذلك إن سكتوا عليه، فأسرعوا باعتقال "البشير"
ونفيه إلى صحراء (وهران) سنة (1359هـ= 1940م)، وبعد أسبوع من اعتقاله توفي
"ابن باديس"، واختاره العلماء رئيسًا لجمعيتهم، ولبث في منفاه ثلاث سنوات،
ثم خُلي عنه عقيب انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة (1362هـ= 1943م).
رئاسة
جمعية العلماء:بعد خروجه من المنفى أعاد نشاط جمعية
العلماء في بناء المساجد وتأسيس المدارس، وإصدار جريدة البصائر في سلسلتها
الثانية بعد أن توقفت أثناء الحرب، وتولى رئاسة تحريرها، وكانت مقالاته
الافتتاحية فيها نسيجًا فريدًا من نوعه في النبض العربي الإسلامي.
ولما
تزايدت أعداد خريجي المدارس الابتدائية رأى "البشير الإبراهيمي" ضرورة
الانتقال إلى المرحلة الثانوية، فدعا هو وزملاؤه العلماء الأمة الجزائرية
إلى الاكتتاب في إنشاء معهدٍ ثانويٍّ، فاستجابت الأمة للدعوة، وأنشئ هذا
المعهد الذي أطلق عليه معهد "عبدالحميد بن باديس" تخليدًا لذكراه، واستقبل
المعهد طلابه في سنة (1367هـ= 1948م)، وكانوا ثمانمائة طالب، ثم تزايدت
أعداد الطلاب بعد ذلك، ومن بين تلاميذ هذا المعهد كان دعاة الحركة
التحريرية بالجزائر، حين تقدمت الوفود المؤمنة إلى معركة الاستقلال بحمية
مشتعلة، ومن خريجيه تشكلت أولى البعثات العلمية الجزائرية إلى مصر والعراق
وسوريا؛ حيث اعترفت بشهادة هذا المعهد جامعات الشرق العربي، وأصبح في وسع
خريجيه الالتحاق بكلية دار العلوم والجامع الأزهر بالقاهرة، وجامعة بغداد
وجامعة دمشق.
رحلة "البشير الإبراهيمي" إلى المشرق العربي:غادر
"الإبراهيمي" الجزائر العاصمة سنة (1371هـ= 1952م) متجهًا إلى المشرق
العربي في رحلته الثانية التي دامت عشر سنوات حتى استقلال الجزائر سنة
(1381هـ= 1962م)، وكانت جمعية العلماء قد كلفته القيام بهذه الرحلة لتحقيق
ثلاثة أهداف:
بذل المساعي لدى الحكومات العربية لقبول عدد من الطلاب
الجزائريين الذين تخرجوا من معاهد جمعية العلماء في جامعاتها.
طلب
معونة مادية لجمعية العلماء لمساعدتها في النهوض برسالتها التعليمية.
الدعاية
لقضية الجزائر التي نجحت فرنسا في تضليل الرأي العام في المشرق بأوضاع
المغرب عامةً والجزائر خاصةً.
واستقر بـ"الإبراهيمي" المقام في القاهرة،
وشرع في الاتصال بمختلف الهيئات والمنظمات والشخصيات العربية الإسلامية في
القاهرة وبغداد ودمشق والكويت، ونشط في التعريف بالجزائر من خلال
المؤتمرات الصحفية، والمحاضرات العامة التي كان يلقي كثيرًا منها في المركز
العام للإخوان المسلمين، وكان بيته في القاهرة ملتقى العلماء والأدباء
وطلبة العلم.
وسبق وصول "البشير" إلى القاهرة بعثة جمعية العلماء التي
ضمت 25 طالبًا وطالبةً، وكانت بعثات الجمعية تقتصر على مصر وحدها للدراسة
في الأزهر والمدارس المصرية، غير أن "البشير" تمكن من الحصول على عدد آخر
من المنح التعليمية للطلاب الجزائريين في البلاد العربية الأخرى، واتخذ من
القاهرة مقرًّا يشرف منه على شئون هذه البعثات في بغداد ودمشق والكويت،
وكان يقوم بين الحين والآخر بزيارة هذه البلاد؛ لتفقد أحوال الطلاب
الجزائريين والسعي لدى حكوماتها من أجل الحصول على منح جديدة.
وكان
"الإبراهيمي" يعلق آمالاً واسعة على هؤلاء الطلبة المبعوثين، فلم يألُ
جهدًا في تصحيحهم وإرشادهم وتذكيرهم بالوطن المستعمر، وبواجبهم نحو إحياء
ثقافتهم العربية الإسلامية التي تحاربها فرنسا وتحاول النيل منها، وقد
أثمرت جهوده التي بذلها تجاه هؤلاء المبعوثين عن نجاح ما يقرب من معظمهم في
دراستهم الثانوية والجامعية، وساهموا في تحقيق الفكرة العربية الإسلامية
التي كان يؤمن بها العلماء، وفي أثناء إقامته بالقاهرة اختير "الإبراهيمي"
لعضوية مجمع اللغة العربية المصري سنة (1380هـ= 1961م).
العودة
بعد استقلال الجزائر:ولما أعلن استقلال الجزائر عاد
"البشير الإبراهيمي" إلى وطنه، خطب أول صلاة جمعة من مسجد (كتشاوة) بقلب
العاصمة الجزائرية، وكان هذا المسجد قد حوله الفرنسيون إلى كتدرائية بعد
احتلالهم الجزائر.
وفاة "البشير الإبراهيمي":بعد
عودة الشيخ "البشير الإبراهيمي" لزم بيته، ولم يشارك في الحياة العامة بعد
أن كبر سنه وضعفت صحته، حتى لاقى ربه يوم الخميس الموافق (18 من المحرم
1385هـ= 19 من مايو 1965م) بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال، وخرجت الأمة
تودعه بقلوب حزينة وأعين دامعة، تعبيرًا عن تقديرها لرجل من رجالات الإصلاح
فيها، وأحد بناة نهضتها الحديثة.
مؤلفات "الإبراهيمي":كان
"البشير الإبراهيمي" واسع المعرفة شأنه، شأن السلف الأول من حملة الثقافة
الإسلامية، فكتب في الأصول والتشريع الإسلامي، وألف في اللغة وقضاياها
الدقيقة، وفي الأخلاق والفضائل الإسلامية، وهو كاتب بليغ ذو أسلوب بديع،
يحمل نفس مجاهد وروح مصلح وخيال شاعر وقوة ثائر، وتشهد على ذلك مقالاته
النارية التي كان يفتتح بها مجلته الشهرية (البصائر)، وله ملحمة رجزية
نظمها في الفترة التي كان فيها مبعدًا في الصحراء (الوهرانية)، وهي تبلغ
ستًا وثلاثين ألف بيت، تتضمن تاريخ الإسلام، ووصفًا لكثير من الفرق التي
نشأت في عصره، ومحاورات أدبية بين الشيطان وأوليائه، ووصفًا للاستعمار
ومكائده ودسائسه.
وهذا بيان بمؤلفات الشيخ التي لا يزال بعضها
حبيسًا لم ير النور:
عيون البصائر؛ وهى مجموعة مقالاته التي نشرت في
جريدة (البصائر).
النقابات والنفايات في لغة العرب؛ وهو أثر لغوي يجمع
كل ما هو على وزن فعالة من مأثور الشيء ومرذوله.
أسرار الضمائر العربية.
التسمية
بالمصدر.
الصفات التي جاءت على وزن فعل.
الاطراد والشذود في
العربية.
رواية كاهنة أوراس.
حكمة مشروعية الزكاة.
شعب الإيمان
(في الأخلاق والفضائل الإسلامية).
الملحمة الرجزية في التاريخ.
فتاوى
متناثرة.
وقد طبعت أخيرًا مجموعة من مؤلفات "البشير" في خمسة مجلدات
تحت عنوان "آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي"، وأصدرته دار الغرب
الإسلامي.