لا توجد كلمة أكثر إثارة وجاذبية في عالمنا المعاصر من كلمة ديمقراطية لما شكلته من نجاعة سياسية و دينامية فعالة لممارسة الاختلاف في إطار تعددي، سلمي، تشاركي، منفتح على جميع مكونات المجتمع..ونظرا لما عانته شعوبنا العربية من استبداد شرقي بغيض، وما رزحت تحته من تسلط وتحكم في رقاب الناس في ظل أنظمة توتاليتارية حكمت الناس بالقمع و الإكراه، ثارة باسم الحق الالاهي وثارة أخرى باسم الشرعية الثورية، وثارة باسم رابطة الدم من ولاء عشائري وقبلي فإن هذه الشعوب المتعطشة للانعتاق والحرية لا يكاد يخفت لها صوت بضرورة تطبيق الديمقراطية تطبيقا حقيقيا بعدما تبين لها أن ما يتمتع به الغرب الكافر من قوة وحيوية يعود بالأساس على نظامه السياسي القائم على مشاركة جميع الفرقاء على اختلاف توجهاتهم ومرجعياتهم في صناعة القرار في إطار سياسة مواطنة، تعاقدية لا يستأثر فيها طرف دون طرف آخر بالسلطة دون حسيب أو رقيب بحجة امتلاكه الأحجية والحقيقة المطلقة مثل أنظمتنا الخراجية والرعوية حيث أن مجموع الشعب ليسوا أكثر من رعايا، قاصري النظر، لا يعرفون ما يضرهم و ما ينفعهم، وأن الإرادة شاءت فقدرت لهم راعيا أمينا يقودهم إلى بر الأمان مـخافة أن يأكلهم الذئب، ومـادام أن الذئب لا يأكل من الغنم إلا القاصية فإن أي خروج عن وحدة الجماعة هو خروج محفوف بالمخاطر قد يؤدي بالفرد إلى التهلكة أي إلى الفناء والاندثار.
إن مفهوم الجماعية هنا باعتباره أحد المكونات الأساسية داخل الحقل التداولي العربي و الإسلامي، فهو يحيل إلى الوحدة أي توحد الناس ودورانهم في فلك منظومة واحدية مركزية، تشكل المرجع الأوحد والأرضية التي لا تستقيم الحياة إلا بالرجوع إليها، وإذا ما حاول فرد ما الخروج عنها أو الاعتراض على سلطتها وطريقة ممارستها للسلطة، فإنه يرمى بالخروج عن إجماع الأمة، فتتم محاربته والتضييق على حريته ولما هدر دمه. وهنا نتساءل عن شرعية الاختلاف وحدوده داخل المنظومة الواحدية، هل حقا أصبح الاختلاف، وكيفية تدبيره في إطار تعددي بين جميع الفرقاء ممكنا وبعيدا عن لغة التكفير والتخوين! ثم هل التعددية تفرق وتشرذم وعائق بنيوي أمام الوحدة! أم عامل جوهري في أية عملية وحدوية حقيقية!
كثيرا ما تحاجج أنظمتنا الخراجية و الريعية وهي تبحث لها عن مبررات لوجودها التسلطي، ولديمقراطيتها المزيفة بالادعاء أن الديمقراطية الغربية ليست أكثر من ديمقراطية تصادم سياسي تبعا لطبيعة التناقض الاجتماعي هناك، أي مجالا للصراع العنيف على السلطة تحقيقا لمصالح فئوية ضيقة الأمر الذي يذكي الاقتتال والتناحر بين مختلف شرائح المجتمع، لكن هذا الادعاء لا يصمد كثيرا أمام الحقيقة، خاصة إذا علمنا أن المجال السياسي في الغرب مجال مشبع فكريا واجتماعيا بروح حداثة سياسية متقدمة تتأسس كما يقول المرحوم المفكر الكبير مهندس العقل العربي محمد عابد الجابري على ممارسة الناس الحرب بواسطة السياسة. أي بواسطة الحوار والنقد والاعتراض والأخذ والعطاء والتعايش بالتالي في إطار السلم القائم على الحلول الوسطى المتنامية. وتأسيسا على هذا هل تمتلك نخبتنا الحاكمة الجرأة على تبني حلول وسطى مع مختلف القوى السياسية المنافحة لها للخروج من حالة الجمود والارتكاس، على واقع الفاعلية والمشاركة البناءة! مشاركة حقيقية تنخرط فيها كافة الأطياف الحقيقية المكونة للمجتمع. حقا إن الـحط من قيمة الديمقراطية ذات المضمون الغربي ووصفها بأنها ديمقراطية قلاقل وتصادمات ونزاعات لا تنتهي، والتبشير عوضا عنها بديمقراطية الإجماع السياسي أو ديمقراطية التحالف السياسي يدفعنا لأن نتساءل ثانية ماذا لو لم يحصل إجماع ما حول قضية من القضايا واختلفت الآراء حولها، هل نسلط السيف على رقاب الناس حتى يؤمنوا كافة! ثم أليس الإجماع أكثر من وسيلة لمصادرة الرأي الأخر واحتكاره بدعوى الحفاظ على الوحدة المزعومة باعتبارها أسمى ما تصبو إليه الأمة! ومن ناحية أخرى وعند الحديث عن ديمقراطية التحالف السياسي فإن أول شيء يتبادر إلى أذهاننا، من يتحالف مع من! ما هي أشكال التحالفات وما هي مضامينها! ثم ألا تشكل المصالح الفئوية الضيقة أساسا لتحالف النخب السائدة و المتنفذة وإن اختلفت توجهاتها وتعارضت اديولوجياتها! بينما مجموع الشعب المقهور مغيب أو منغمس في صراعاته الهامشية. صراعات يغذيها الفقر والجهل وانسداد الأفق. صراعات بالأحرى أن توحد الشعب وترص صفوفه للقيام قومة رجل واحد لفضح واقع الظلم الاجتماعي والحيف الاقتصادي والمشاريع المزيفة أملا في تحقيق مجتمع الحرية والمساواة. مجتمع العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات وهذا لن يتحقق إلا بالنضال من أجل ديمقراطية شعبية..الشعب هو مصدرها الأول والأخير.