غزة ... سامحينا*

دم تدفق… أكف لم ترتسم ملامحها وأصابع مبتورة لم تنقش خطواتها على الأرض، وأوصال متقطعة لم تبلغ الحلم قط، وعيون نامت، لم تنتبه أن الموت أقصر من المسافة بين دفتي القلب، لم يقترفوا ذنبا، لم تجن أياديهم ما يُعاقبون عليه، ولم يمارسُوا الخطيئة، وما بلغوا حد العصيان سوى أنهم حضنوا أمهاتهم وناموا..
رائحة الموت تلف المكان، والليل نهار، وعروق تنز هلعا، وقبلة أم بقيت على الخد، لينام صغيرها الطري كسوسنة لم تعش شرعية الحلم، فاحترق بنيران الأقزام الذين لم يرحموا أطرافهم الغضة…

استمحيكم عذرا.. أنا غزة:

هل شاهدتم أبنائي مذبوحين..هل رأيتم أولادي يترنحون ألما ليصلوا الى المستشفى.. هل لمحتم نظرات الرعب التي تجول في عيني شبابي وبناتي.. هل دمائي التي تجري في أوردة أبنائي من فصيلة لا تنتمي اليكم؟
وماذا أحسستم عندما تحدثت تلك السيدة الغزاوية وقالت تُعزي نفسها: كان عندي تسعة، راح خمسة وظل اربعة..

استمحيكم عذرا..

هل أقلقت يومكم؟ هل لمحتم تلك الطفلة التي تصرخ “ماما.. ماما” وجرحها أكبر من صمتكم وابلغ من دمعكم..

أنا غزة.. ليلا…

جواهر ودينا وسمر واكرام وتحرير.. وردات خمس، لم يقترفن ذنبا سوى أنهن في تلك الليلة رقدن بجانب بعضهن بعضا.. اختلفن على غسل الأواني، وضحكن على الصغيرة لترمي القمامة وحدها، ثم ذهبن الى والدهن يشتكين من اخواتهن الأخريات أنهن لم يقمن بدورهن في تنظيف الصالون ... لم يفعلن شيئا في تلك الليلة.. وفي الصباح حُمِلن جثثا، انتظرن في الثلاجة، ريثما يجد والدهن مكانا، ليهل عليهن حفنة من التراب ويرقدن للأبد..

لمى وهيا.. ركبتا الحمار.. لتصلا الى منزلهما.. لمى لم تبلغ أربع سنوات بعد.. مازالت تبكي في الثلاجة.. تريد العودة الى والديها.. ومشتاقة الى كتابها الذي يحمل رسومات جميلة.. لم تعد.. والحمار مضى الى حال سبيله..
ورضيع لم تسكته إلا هدأة أمه المرتجفة، وصوتها المبحوح الذي يدندن لحنا سماويا يحملها إلى سنابل القمح المعبقة بهواء جنوبي الروح…وشهوة لم تذبل…

غزة فجرا…

وأصوات تسكت إلى الأبد، وجثث طحنتها أعداء الحياة والطفولة، ومنازل بدائية.. لم تعد موجودة على الخارطة

غزة أنا.. عصرا…

وصبية بجدائلها الطويلة، وبدايات الهوى، تستلقي عليها، منتظرة طيفه الذي لم يغب يوما عن عينيها المتلهفتين لقضاء أمسية عشقية في بحر أزرق الموج… محلقة كما هي، جسدها المشتهى تمزق، والطيف لن يصل ويعانقها ، فقد اشتهاه الموت باكرا… ومناجاة بقيت في أسارير قلب لم يعد هنا..
عجوز فارق سنواته، لم يودع أحفاده بما يليق بفرحته عندما أطلقوا صراخاتهم الأولى… لم يتعرفوا عليه، لكن شذاه كان قد غطى الغبار الكحلي في ذاك الفجر…
تحيون ، ونموت نحن اليوم ألف مرة… وقوافل النسيان الطويلة لم توفر لنا نعمة الذاكرة حينما استغثتم بالندى…

نحن نستمحيك عذرا..

لم تجدوا إلاَكم…

عرايا نحن، لا أفقا يغطينا، ولا قبرا يوارينا، ولا نعتذر، لأننا لا نملك عذرا بحجم أشلائكم التي لملمتها نداءاتكم تحت الأنقاض…

ياأهل غزة… سامحونا