حوّل الدبلوماسية إلى جثة هامدة ونسف مجهودات الرئيس
مدلسي:اعترف بالغباء فأصبح وزيرا للخارجية
2011.03.19 عبد الوهاب بوكروح
يصف سنوات الإرهاب بالحرب الأهلية ويخاطب الجزائريين من الصحافة الأجنبية
تعرضت الآلة الدبلوماسية الجزائرية إلى هزات عنيفة أجبرتها على الانكفاء على ذاتها خلال السنوات الأخيرة نتيجة تعيين شخصيات لا علاقة لها بالقطاع على رأس جهاز خطير جدا وهو جهاز الدبلوماسية، مما فسح المجال أمام دول أقل حجما وثقلا لكسب مساحات جديدة في المنطقة على حساب الجزائر، وبخاصة في منطقة الساحل الإفريقي وحتى داخل الجامعة العربية.
وكشف دبلوماسي رفيع في تصريحات لـ"الشروق"، أن جزءا من الوهن الذي أصيبت به الدبلوماسية الجزائرية في الفترة الأخيرة يعود إلى تحييد الكفاءات الحقيقية في وزارة الخارجية التي تعتبر مخبرا حقيقيا للكفاءات في الحقل الدبلوماسي والحد من هامش المناورة الذي كان يتمتع به جهاز الديبلوماسية الجزائري، حيث تم منع السفراء والقناصل من الخوض في أي موضوع مهما كانت درجة أهميته إلا بعد الرجوع إلى وزارة الخارجية، مما دفع بالكثيرين إلى التحول إلى مجرد أجراء.
وأشار المصدر إلي التراجع الذي أصيبت به الآلة الدبلوماسية في الفترة الأخيرة، وهو ما عكسته المواقف المتذبذبة وغير الواضحة من أمهات القضايا التي تعصف بالمنطقتين العربية والشرق أوسطية ودول الساحل الإفريقي، متسائلا عن السر الذي يمنع الجزائر من اتخاذ مواقف واضحة مما حدث ويحدث في العراق ومصر وتونس وليبيا ودول الساحل الإفريقي التي تعتبر عمقا استراتيجيا للجزائر.
واستهجن المصدر التعيينات السياسية لأشخاص لا علاقة لهم بالديبلوماسية في مناصب قيادية على رأس القطاع، في الوقت الذي يتم فيه إبعاد كفاءات مشهود لها على غرار طافر وغوالمي وعطاف ورحابي وغيرهم إلى التقاعد، فضلا عن الغياب الواضح للجزائر في منطقة الساحل، حيث لم يزر أي مسؤول جزائري رفيع دول الساحل في زيارة رسمية رغم إستراتيجية المنطقة للجزائر التي فسح غيابها "الإرادي" الملعب لدبلوماسية "جارنا الملك" والقذافي للعب بكل حرية في منطقة متفجرة مفتوحة تمتد من نواكشوط إلى غاية دارفور والسودان عموما، مرورا بمالي والنيجر وتشاد، التي هي العمق الاستراتيجي للجزائر.
ديبلوماسية ضائعة في محيط هائج
ظل مراد مدلسي يتوارى عن الأنظار كلما تطلب الأمر تدخلا من الديبلوماسية الجزائرية لتوضيح وتحديد موقف الجزائر من قضايا لا ينفع معها ولا يقنع الحياد الإيجابي أو ما يسمى بديبلوماسية الصمت، فأحداث تونس التي أطاحت بنظام بن علي لم تحرك في الرجل شيئا كي يقول للجزائريين موقف دولتهم من ثورة الشباب التونسي خاصة، وأننا على تماس مباشر مع الشقيقة تونس، يضرنا ما يضرها وينفعنا ما ينفعها، ولولا رسالة الرئيس بوتفليقة التي ألقى بها من طائرته وهو متوجه إلى شرم الشيخ، لما أحس الجزائريون بتفاعل دولتهم مع الزلزال السياسي الجارف الذي أطاح ببن علي، وخلال ثورة الشباب المصري تكلمت كل دبلوماسيات العالم وأبدت تعاطفها مع الثوار ورفضها لقمع المحتجين، بينما ظل مدلسي يختفي وراء ظله ويتحاشى إبداء أي موقف حتى تضاءل دور الجزائر، وكاد العالم ينسى أنها أكبر دولة في إفريقيا بعد تقسيم السودان.
ومما زاد الطينة بلة الموقف السلبي لمدلسي من أحداث ليبيا التي أقحمت فيها الجزائر بطريقة أساءت للشعب الجزائري، حينما شنت أطراف ليبية بإيعاز من لوبيات مغربية حملة تشويه تزعم دعم الجزائر للقذافي بطائرات عسكرية تنقل مرتزقته الذين يقتلون الليبيين، وظل مدلسي يتوارى عن الأنظار حتى عندما سأله الصحفيون عن الموضوع رد بكلمة واحدة زادت في تأجيج المشكلة عندما قال "كلام فارغ" عوض أن يقدم الموقف الجزائري بالدليل والبرهان لإسكات الألسن التي كانت تتحدث عن الإشاعة كأنها حقيقة.
وحتى عندما صوتت الجامعة العربية على طلب حظر جوي ضد القذافي، سكت الرجل وهو يرى الجزائر موضع اتهام ولم يستطع حتى شرح الاحتراز على القرار للعالم مثلما فعل نظيره السوري، حتى صار بعض الجزائريين يتوارون خجلا من إخوانهم الليبيين الذين اعتقدوا في لحظة ما أن الجزائريين يساندون الطاغية ضدهم.
وهن عربي وسبات إفريقي
عربيا وإفريقيا لم تسجل الجزائر زيارة رسمية لأي مسوؤل فلسطيني في السنوات الأخيرة، وهو موقف غير مفهوم للجزائر التي دفعت فاتورة "مع فلسطين ظالمة أو مظلومة" غاليا، بل ظلت الجزائر تابعا وغير قادرة على تشكيل محور مؤثر حتى داخل الجامعة العربية، متخلية حتى على مطلبها التاريخي بضرورة تدوير الأمانة العام للجامعة وضمان الشفافية في معالجة قضايا الأمة.
وعلى الرغم من السعي الحثيث من الجزائر في شخص الرئيس بوتفليقة لاستعادة دورها على المستويات العربية والإفريقية وحتى الدولية خلال العشرية الأخيرة والاستثمارات المادية والمعنوية المكلفة، إلا أن التصريحات المفاجئة لرئيس الدبلوماسية الحالي مراد مدلسي بخصوص أمهات القضايا التي تهم الجزائر في الصميم وعلى رأسها الوضع في المنطقة العربية وتحجيم الدور الجزائري داخل الجامعة العربية، كرست الفشل في الاستغلال الأمثل لاتفاقات دولية أبرمتها الجزائر خلال العقد الأخير ومنها اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي والمنطقة العربية للتبادل الحر.
وبالمقارنة مع النتائج التي تحققت ميدانيا لدول لا تتوفر لها الإمكانات والعلاقات التاريخية التي تتمتع بها الجزائر، وخاصة على صعيد العلاقات الاقتصادية والتأثير على مسرح الأحداث الجهوية والإقليمية، اختصرت الدبلوماسية الجزائرية إلى مجرد سفارات وقنصليات لملء الفراغ أكثر منها ممثليات تدافع عن المصالح الاقتصادية والسياسية للجزائر وتحسين صورة البلاد في الخارج وجلب الاستثمارات الأجنبية وترقية المنتج الجزائري في الخارج وتعزيز الصادرات، كما هو معمول به من قبل جميع الدول التي تريد تبوأ مقعد محترم بين الأمم، حيث لم نسمع يوما ومنذ 2007 أن ممثلية دبلوماسية جزائرية في آسيا أو إفريقيا وحتى أمريكا اللاتينية وأوروبا، قامت بتنظيم تظاهرة اقتصادية في الدول المعتمدة لديها لتسويق صورة الجزائر، كما تعمل الممثليات الدبلوماسية المعتمدة بالجزائر والتي نشهد لها نشاطات خارقة للعادة.
عن أي حرب أهلية تتحدث يا مدلسي؟
مرة أخرى لم يتأخر مدلسي في إطلاق تصريحات من العيار الثقيل، في حوار له ببلاتو القناة البرلمانية الفرنسية بل أسابيع، بوصفه لما حدث خلال تسعينات القرن الماضي بالجزائر، بأنه "حرب أهلية" بدون تحديده لأطراف هذه "الحرب"، كما سماها، وهي المرة الأولى منذ اندلاع الأزمة بالجزائر التي يستعمل فيها دبلوماسي جزائري رفيع وصفا من هذا القبيل. بعد أن كانت الدولة الجزائرية وخلال العقدين الماضيين ترافع في المحافل الدولية ضد الإرهاب لتثبت أن الشعب الجزائري كان يواجه آلة التطرف ودفع ثمن هذه المواجهة بأكثر من 200 ألف ضحية، وكأننا بوزير الخارجية يعيد على العالم طرح السؤال الذي قصم ظهر الجزائر لسنوات من طرف القواعد الخلفية للإرهاب وفلول التطرف في العالم وهو "من يقتل من؟"، .. ويتساءل دبلوماسيون كيف لرئيس الجهاز الدبلوماسي يرتكب خطأ بهذا المستوى، يوحي بأن ذكاءه قليل حتى في استيعاب حجم المأساة التي مرت ببلاده، خاصة بعد أن تصالح الجزائريون وانتصروا على الفكر المتطرف الذي عصف باستقرار البلاد لسنوات.
اختفى ملف الخليفة.. لأنني لست ذكيا!
ولم تكتف الآلة الدبلوماسية، بحصد خيبات أمل على الصعيد الاقتصادي، بل امتد ذلك إلى ما يشبه الاستقالة أو ما يعرف بسياسة النعامة أمام مواقف محرجة، وخاصة حيال ما يحدث في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وقبلها التسيير الكارثي للأزمة التي خلفها هجود أزلام النظام المصري المخلوع على الجزائر والجزائريين خلال مقابلة كرة القدم وما بعدها، وكأن رئيس الدبلوماسية يريد التأكيد مجددا على أنه يعجز دائما على التعامل مع أمهات القضايا مثل ما حدث مع قضية "بنك الخليفة" عندما كان وزيرا للمالية، حيث أطلق تصريحات أثارت ضجة كبيرة يوم مثوله في 27 جانفي 2007 أمام هيئة محكمة الجنايات بالبليدة كشاهد في قضية "الخليفة بنك"، إلى درجة أنه صدم الحضور وأصابهم بالدهشة حين اعترف "بقلة ذكائه" في التعامل مع "اكبر قضية نصب واحتيال في تاريخ الجزائر"، إلى درجة أنه لم يتخذ أي إجراءات صارمة لدى تلقيه تقرير خاص بكل تجاوزات "بنك الخليفة".
لكن رئيسة الجلسة قاطعته بسؤال "ألا يكفي مثل هذا التقرير لاتخاذ إجراء ما؟"، ليرد عليها مدلسي "أعتقد أنني لست ذكيا بالقدر الكافي، لو كنت كذلك لتصرفت في القضية بشكل آخر واتخذت قرارا على الفور، لكن ما عساني أن أقول، فالكمال لله".
وبرّر وزير المالية وقتئذ، تغاضي وزارة المالية عن تجاوزات "الخليفة بنك" في تلك الفترة بتحفيز الدولة للاستثمارات وتشجيع حركة رؤوس الأموال في إطار الإصلاحات الاقتصادية.
وسألت رئيسة الجلسة، مدلسي، عن رأيه بعد اكتشاف هذه الفضيحة المالية فرد قائلا "لست فخورا بنفسي، وأشعر بالخجل والاستياء من هذه الفضيحة التي مرّغت سمعة الدولة الجزائرية في التراب". كما اعترف بأنه استقبل صاحب "مجموعة الخليفة" رفيق عبد المومن خليفة في مكتبه بتاريخ 18 ديسمبر 2001، وطلب مساعدة الوزارة للحصول على وثيقة تؤكد حيازته لبنك خاص في الجزائر قصد شراء مصرف في ألمانيا، مضيفا بأنه لم يسلمه هذه الوثيقة كون بنك الجزائر لا يسلم مثل هذه الوثائق.
وعرفت فترة مدلسي على رأس وزارة المالية، فضيحة أخرى، تمثلت في اختفاء التقرير السري الذي أعده بنك الجزائر حول كل مخالفات وتجاوزات "الخليفة بنك"، الذي وصل إلى وزارة المالية في ديسمبر 2001، واطلع عليه وزير المالية محمد ترباش ومن بعده مراد مدلسي، من دون أن تتقدم الوزارة المعنية برفع دعوى قضائية.